هجمة "الافروسنتريك" تُروّج للأكاذيب بفيلم "كليوباترا".. والعلماء يردون (تقرير)
أثارت منصة "Netflix" الجدل بعد طرحها الإعلان الترويجي لفيلم وثائقي جديد، يتناول حياة "الملكة المصرية كليوباترا"، آخر ملكات مصر من حكم البطالمة، التي يعتبرها كثيرون امتدادا لعصر الدولة المصرية القديمة، وكان مقررًا للفيلم أن يُعرض في العاشر من شهر مايو المقبل.
كان ظهور الملكة المصرية ذات الأصول المقدونية بصورة إفريقية بحتة، ببشرة سوداء وشعر مجعد. سببًا في الاحتجاجات التي ملأت صفحات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي فجّرت العديد من الاتهامات من الخبراء ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في مصر، والذين اتهموا المنصة العالمية بتشويه وتزوير المعطيات التاريخية الثابتة، واعتبر البعض أنها تحاول طمس الهوية المصرية القديمة.
والوثائقي الذي يحمل عنوان QUEEN CLEOPATRA"" يتناول الحروب التي خاضتها آخر الملكات التي حكمت مصر منذ وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323 ق م، لحماية عرشها وعائلتها وإرثها، وهو من إنتاج جادا بينكيت سميث، وهي ممثلة وكاتبة أغاني أمريكية من أصول أفريقية، وزوجة الممثل الشهير ويل سميث.
في البوستر الدعائي لوثائقي الملكة المصرية، ومدته دقيقتين، تظهر كليوباترا بشفاه غليظة وأنف عريض، الأمر الذي اعتبره رواد التواصل الاجتماعي محاولة إضافية لسرقة تاريخ وحضارة مصر ونسبها إلى حضارات أخرى.
وأوضح النص التقديمي أن تراث كليوباترا لطالما "كان موضوع الكثير من الجدل الأكاديمي، والذي غالبًا ما تم تجاهله من قبل هوليوود"؛ مشيرا إلى أن السلسلة الجديدة "ستعيد الآن تقييم هذا الجزء الرائع من قصتها"، كما ذكرت شبكة "يورونيوز" الأوروبية.
ومن التصريحات المثيرة للجدل والتي وردت في المقطع الترويجي "لا يهمني ماذا تعلمت في مدرستك.. كليوباترا كانت مصرية سوداء.. ومرجح أنها كانت مصرية سوداء تدافع عن شعبها وبلدها"، في إصرار على أنها كانت من أصحاب البشرة السمراء، ما يضرب بعرض الحائط الفرضيات الأخرى. حيث يرّوج الوثائقي للنقاش حول مزاعم "المركزية الأفريقية / الأفروسنتريك"، وهي حركة أو تيار ثقافي وسياسي يسعى إلى إبراز الهوية والمساهمات الثقافية الأفريقية في تاريخ العالم، ونشر فكرة أن جميع حضارات العالم كانت تضم من أصحاب البشرة السمراء قبل تشتتهم.
وأمام إصرار المنصة على عرض الفيلم، وقّع في الوقت نفسه، مدونون على مواقع التواصل الاجتماعي عريضة تنتشر على الآن الإنترنت، على موقع change.org، وتحمل عنوان: "منع الملكة كليوباترا على Netflix لتزوير التاريخ."
وتهدف العريضة إلى جمع 50 ألف توقيع، وهو ما لقي قبولًا كبيرًا وتفاعلًا يؤكد على حرص المصريين على هويتهم، وجاء في الإلتماس بالعريضة: لقد ولدت – كليوباترا - في الإسكندرية، مصر، في سلالة البطالمة حتى أصل يوناني. لم تكن سوداء. هذا ليس بأي حال من الأحوال ضد السود، وهو ببساطة دعوة للاستيقاظ للحفاظ على تاريخ وسلامة المصريون واليونانيون". واختتم الالتماس بالقول إن مصر لم تكن قط سوداء أو بيضاء بشكل حصري، مضيفًا أنه في حين أن هناك عددًا من الحضارات الأفريقية / السوداء، فإن مصر كانت / ليست واحدة منها.
وأمام الادعاءات الدولية، تقّدم عدد كبير من المصريين عبر مختلف المنصات بالرد على ادعاءات الافروسنتريك / المركزية الإفريقية، فيما جاء الرد الرسمي، من وزارة السياحة والآثار على لسان الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري، الذي قال أن ظهور البطلة بهذه الهيئة يعد تزييفًا للتاريخ المصري ومغالطة تاريخية صارخة لاسيما أن الفيلم مصنف كفيلم وثائقي وليس عمل درامي، الأمر الذي يتعين على القائمين على صناعته ضرورة تحري الدقة والاستناد إلى الحقائق التاريخية والعلمية بما يضمن عدم تزييف تاريخ وحضارات الشعوب.
وأضاف وزيري، أنه كان يجب الرجوع إلى متخصصي علم الآثار والانثروبولوجيا عند صناعة مثل هذه النوعية من الأفلام الوثائقية والتاريخية والتي سوف تظل شاهدة على حضارات وتاريخ الأمم، لافتا إلى أن هناك العديد من الآثار الخاصة بالملكة كليوباترا من تماثيل وتصوير على العملات المعدنية التي تؤكد الشكل والملامح الحقيقية لها، والتي جميعها تظهر الملامح الهلينستية "اليونانية" للملكة كليوباترا من حيث البشرة فاتحة اللون والأنف المسحوب والشفاه الرقيقة.
مؤكدًا أن حالة الرفض التي شهدها الفيلم قبل عرضه تأتي من منطلق الدفاع عن تاريخ الملكة "كليوباترا السابعة" والذي هو جزء هام وأصيل من تاريخ مصر القديم، وبعيدًا عن أي عنصرية عرقية، مؤكدًا على الاحترام الكامل للحضارات الإفريقية ولأشقائنا في القارة الإفريقية التي تجمعنا جميعا.
ناصر مكاوي رئيس قسم الآثار المصرية بكلية الآثار جامعة القاهرة، أوضح أن ظهور الملكة كليوباترا في هذا الفيلم بهذه الهيئة يتنافى مع أبسط الحقائق التاريخية وكتابات المؤرخين أمثال بلوتارخوس وديوكاسيوس والذين سجلوا أحداث التاريخ الروماني في مصر في عهد الملكة كليوباترا والذين أكدوا أنها كانت ذات بشرة فاتحة اللون وأنها ذات أصول مقدونية خالصة.
وأشار إلى أن الملكة "كليوباترا السابعة" تنحدر من أسرة مقدونية عَريقة حكمت مصر ما يقارب من 300 عام، أسسها الملك "بطليموس الأول" وهو أحد القادة المقدونيين بجيش "الأسكندر الأكبر" والذي آلت إليه ولاية مصر بعد بوفاة "الأسكندر" وأسس الأسرة البطلمية، وتزوج بطليموس الأول من الملكة "برنيكي الأولى" ذات الأصول المقدونية أيضًا، وأنجبا الملك "بطليموس الثاني" حيث استمر من بعده أبنائه وأحفاده الملوك في التزاوج من أخواتهم الإناث طبقًا لعادات هذا العصر، وصولًا للملكة "كليوباترا السابعة" وأخيها “بطليموس 14” محافظين على نقاء عرقهم المقدوني خلال كل هذه الفترة الزمنية.
كما أكدت سامية الميرغني مدير عام مركز البحوث وصيانة الأسبق، بالآثار بالمجلس الأعلى للآثار أن دراسات الانثروبولوجيا البيولوجية ودراسات الحامض النووي التي أُجريت على المومياوات والعظام البشرية المصرية القديمة أكدت أن المصريين لا يحملون ملامح أفارقة جنوب الصحراء سواء في شكل الجمجمة وعرض الوجنات والأنف واتساعه وتقدم الفك العلوي ولا في الشكل الظاهري للشعر ونسب أعضاء الجسد وطول القامة وتوزيع وكثافة شعر الجسد. وأن ما نراه من تنوع كبير بين ملامح المصريين يرجع لقدم إعمار هذه الأرض واستقرار سكانها وإذابتهم لكل غريب داخل بوتقتهم.
"جميع النقوش والتماثيل التي خلفها لنا قدماء المصريين على المعابد والمقابر صورت المصريين بملامح أقرب ما يكون بالمصريين المعاصرين من حيث لون العين والشعر والبشرة ودرجة نعومة وكثافة الشعر لدي الرجال والنساء"، هذا وصفت سامية الميرغني التكوين الجُسماني وملامح المصريين القدماء، مضيقة: "حتى لون الجلد ووجود نسبة من العيون الملونة وهي مصورة في بعض تماثيل الدولة القديمة وحتى حين تغيرت بعض تقنيات التحنيط في الأسرة 21 وبدأوا في طلاء جلد المومياء ليبدو كما في حياتها الأولى، قاموا بطلاء جلد الرجل باللون الطوبي وطلاء جلد المرأة باللون الأصفر الفاتح، الأمر الذي يؤكد أن ما تم رسمه وتأكيده على الجدران هو حقيقة سجلها المصري القديم عن نفسه.
كاثرينا مارتينيز رئيس بعثة الدومينيكان والعاملة بمعبد تابوزيريس ماجنا بغرب بمدينة الإسكندرية، ناقشت الأمر ذاته قائلة: "على الرغم من وجود أراء متضاربة حول عرقها – الملكة كليوباترا - إلا أنه من المؤكد أنها ولدت في مصر في عام 69 ق.م من أصل مقدوني، لافتة إلى أنه بالرجوع إلى التماثيل والعملات التي خلفتها لنا الملكة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك على ملامحها الهيلينستية وهو ما يظهر جليا في التمثال النصفي المصنوع من الرخام والمحفوظ في متحف برلين من القرن الأول قبل الميلاد وتظهر فيه وهي ترتدي إكليلا ملكيًا وعينان لوزيتان والأنف مسحوب والشفاه رقيقه، بالإضافة إلى تمثال نصفي آخر محفوظ في الفاتيكان يظهرها بملامح ناعمة، ورأس من الرخام تظهر فيها وهي ترتدي غطاء الرأس، فضلا عن عدد من العملات التي تظهرها بنفس الهيئة الهيلنستية.