كان لها ذمة مالية خاصة.. المرآة في مصر القديمة مُقدّسة ومُصانة وتحظى بالاحترام والتبجيل
كانت مصر تبدأ مع كل فيضان دورة جديدة في حياتها تتعاقب فيها فصول ثلاثة كل منها يتكون من أربعة أشهر. وكل منها يحمل إلى سكان وادى النيل الأمل والتفاؤل بفيض هذا النهر الخير الذي يحمل اليهم خيراته والذي تغذى مياهه أرض الوادي ودلتاه. ومع مياه النهر المتدفقة تأتي الفرحة والبهجة والأمل في محصول وافر، ولكنها أحيانا كانت تسبب القلق اذ كان أكثر ما يخشاه المصري أن يأتي الفيضان ضئيلا فتعطش أرضه. لقد كانت عودة مياه الفيضان الوفير بشرى يتجدد الحياة وبرهانا على الخلود والأبدية .
وفي كتابها، "المرأة الفرعونية"، تقول كريستيان ديروش نوبلكور، على مدار السنين تضافرت معجزة التعاقب المتوالي هذا مع شمس وادى النيل المشرقة المتألقة التي لا يضاهيها في إشراقها وتألقها بلد آخر، مما أثر على سكان مصر وعلى عقائدهم وتقاليدهم وأساليب حياتهم في سائر طبقات المجتمع. وكان من المُسلّم به احترام التقاليد التليدة والرضوخ لها حتى لا يختل توازن النظام الكوني القائم، والذي يرتبط به كل شيء في الوجود منذ أن أوجده خالقه وهو أمر ليس بالخفي حتى يومنا هذا لا سيما في أقاليم وقرى مصر الثنائية، حيث نرى بعضا من الملامح المميزة لحضارة الفراعنة الغابرة .
ورغم تعاقب الغزوات والحروب والصراعات وعصور الاحتلال؛ صمدت الأرض السوداء وامتصت من غزاها وصبغته بصبغتها فالمصري لم يجنح إلى تغيير نمط حياته الأساسي أو أحوال معيشته إلا في أقل القليل، وبالرغم من تحوله عن دينه مرتين على الأقل وتغيير أماكن ممارسة الشعائر والطقوس الدينية خلال عصرين، إلا أن إيمانه الراسخ بالقوة الإلهية العليا لم يتزعزع ولم يضعف قط .
وتواصل: لا ريب أن تجربتي الطويلة على مدار سنوات عديدة قضيتها الفلاحين في القرى، أو مع البدو في الجبال الجرداء في مواقع التنقيب عن الآثار، ثم مع سكان المدن من كافة طبقات المجتمع قد ساعدتني على تفهم أفكار سكان وادى النيل القدماء، ومكنتني من أن أدنو منها كثيرا . فالمظهر الخارجي للمصريين قد تغير في شيء أو آخر، ولكن الجوهر التليد هو كما هو وكم أفدت من مراقبتي لنساء الريف في مصر العليا وهن يمارسن شئون حياتهن العادية وكم أفدت من حديثي مع سيدات الطبقة الراقية، ولولا ذلك لما استطعت أن اتفهم المواقف والتقاليد التي تعبر عنها الرسوم والمناظر المنقوشة على الجدران في المعابد والمقابر، أو التعبيرات اللغوية التي وردت في النصوص القديمة.
وتُضيف: إن آثار مصر القديمة ترسم صورة للدولة الخالدة التي كان للمرآة المصرية فيها دور كامل تؤديه، فهي الأم التي تحظى بالاحترام والتبجيل والفتاة أو الزوجة التي تنصاع لقوانين اخلاقية صارمة، ولكنها لا تمنعها من أن تعبر عن آرائها بحرية ولا تحرمها من أن تحظى بالاحترام والتقدير. فلقد تمتعت المرأة في مصر القديمة بأهلية قضائية كاملة. وكان لها استقلالها المالي عن الرجل وطبعت بشخصيتها القوية اثرها على الحياة العائلية. وكان لها أن تدير الممتلكات العامة أو ممتلكاتها الخاصة، بل وأن تمسك بزمام الأمور في البلاد. ولا يعنى هذا أنها امرأة تجردت من الأنوثة والجاذبية فهي امرأة فاتنة جذابة، وكان هدف الفتاة الأساسي أن تختار شريك حياتها بكامل إرادتها وحريتها، وأن تصبح زوجة وأما صالحة. ولا يعنى هذا أن النظام الأسرى كان أمويا، أي أن الأم تخضعه لسلطانها، بل كان الزوج والزوجة يتقاسمان المسئوليات المعتادة في إطار حياتهما الزوجية، حيث يتكاتفان في السراء والضراء، وتسير بهما الحياة سيرها العادي بخيرها وشرها. ولكن لم تخل تلك الحياة البسيطة من المؤامرات، وكانت الخيانة الزوجية من الجرائم التي يلقى مقترفها عقابا عنيفا، وأن تخفف القانون من صرامته في بعض الأحوال.
وتواصل: كما هو الحال في كل زمان ومكان نقرأ عن خادمات يغلظن القول لربة البيت ولا يبدين نحوها الطاقة والاحترام الواجب، وعن كاهنات أوشكن أن ينزلقن الى هاوية الخطيئة، وعن ملكات تآمرن على ملوكهن وتروى لنا بعض الآثار التي حفظتها الصدفة روايات عجيبة تبرهن على المواهب الرفيعة التي تمتع بها المصريون القدماء، ذلك الشعب الذي أبدع حضارة متقدمة في ذات الوقت الذى كان أجدادنا في أوروبا قابعين في ظلمات الكهوف.