إنقاذ آثار النوبة.. ملحمة علمية لحماية التراث الإنساني
تتميز مصر بتاريخها وحضارتها العظيمة، تلك الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ والتي تمتد من أقصى شمال مصر إلى أقصى جنوبها، ونظرًا لأهمية هذه الحضارة، اتحدت نحو 50 دولة على أرض مصر لإنقاذ تراث الانسانية والمجد الحضاري المصري القديم منذ 63 عاما،إيمانا بفكرة أن العالم يضم تراثًا ثقافيًا وطبيعيًا ذا قيمة عالمية ينبغي للبشرية حمايته بالكامل، فإنقاذ معابد مصر ونزع أحجار معبد أبو سمبل، حجرا تلو الآخر، في بداية ستينات القرن الماضي، كان أول مبادرة للاعتراف بأن العالم رغم ما به من صراعات لا بد أن يُحافظ على إرثه وحضارته التاريخية.
كانت بداية عملية الإنقاذ حينما أطلقت اليونسكو حملة دولية تُطالب بحماية الآثار في النوبة من الغرق في مياه بحيرة ناصر، وفي ذلك الحين، اعتقد كثير من الناس بوجوب الاختيار بين الثقافة والتنمية، بين المحاصيل المزدهرة وآثار التاريخ المجيد، ولكن" اليونسكو" كشفت أن في مقدورنا الحصول على الميزتين، من خلال إنقاذ آثار النوبة برفعها عن مستواها بما يحقق الميزتين لمصر.
النوبة تنقسم إلى قسمين رئيسيين، وهما النوبة السفلى "واوات" وتقع جميعها داخل الحدود المصرية تقريبا فيما بين الجندلين الأول والثاني، والنوبة العليا "كوش" جنوب الجندل الثاني وحتى "الدبة" داخل الأراضي السودانية، وتعرضت آثار النوبة للغرق ثلاث مرات قبل بناء السد العالي.
المرة الأولى عند بناء خزان أسوان سنة 1902م، وتبع ذلك ارتفاع منسوب المياه بشكل هدد الآثار، والمرة الثانية سنة 1912م، والثالثة في سنة 1932م، وفي كل مرة كان يتم إجراء مسح للمواقع الأثرية، وتسجيلها ورسم الخرائط اللازمة لها، وعندما تقرر إنشاء السد العالي، أصبح واضحًا أن جنوب الوادي سيتعرض لارتفاع منسوب المياه بشكل دائم، ومن ثم أصبح من الضروري العمل لتلافي مخاطر ارتفاع منسوب المياه على المواقع الأثرية، وفقًا لموقع الهيئة العامة للاستعلامات المصرية.
كان قرار بناء السد العالي عام 1954م بداية لخلق بحيرة صناعية فسيحة من المياه، تمتد حوالي ثلاثمائة كيلو متر في أرض مصر وحوالي 187 كيلومترا في أرض السودان، بارتفاع منسوب يصل إلى 180 مترا فوق سطح البحر، وهو ما يُشير إلى أن المياه ستغطي جميع الأثار الواقعة في منطقة النوبة التي كانت محط أنظار العالم على مر التاريخ.
لذا في مارس 1960م لبّت منظمة اليونسكو، نداءً مصريًا لإنقاذ آثار النوبة، ودعت علماء الآثار في العالم إلى مؤتمر دولي، أوصى بسرعة العمل على إنقاذ تلك الآثار التي شملت نحو 22 أثراً ومعلماً، وتم إعداد تقرير وتوزيعه على دول العالم لتعريفهم بأهمية هذه الآثار التاريخية وضرورة حمايتها، وحث الدول لتقديم المساعدات.
طبعت "اليونسكو" طوابع بريد تذكارية، شارك فيها مُعظم دول العالم، وحملت هذه الطوابع صورًا لآثار النوبة، وحققت فكرة الطوابع النتيجة المرجوة منها وهي تضامن وتعاطف عدد كبير من الدول واشترك في هذه العملية نحو 50 دولة، قدمت بعضها مساعدات مالية، وأخرى مشاركات عملية، في أكبر عملية إنقاذ تراث إنساني شهدها العالم أجمع.