زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن: قراءة في الأبعاد والتوقعات
قال الكاتب الصحفي حسن صلاح عزام نائب رئيس تحرير الاهرام أنه وفي خطوة تحمل دلالات استراتيجية عميقة، يزور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان العاصمة الأمريكية واشنطن اليوم الثلاثاء ، في زيارة رسمية تمتد لثلاثة أيام يلتقي خلالها بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب. تأتي هذه الزيارة بعد غياب دام سبع سنوات عن البيت الأبيض، وتحديداً منذ آخر زيارة له في مارس 2018، وتمثل نقطة تحول محورية في العلاقات السعودية الأمريكية التي تشهد مرحلة جديدة من التنسيق الاستراتيجي في ظل إدارة ترامب الثانية.
وأشار عزام أن هذه الزيارة تكتسب أهمية خاصة كونها أول زيارة دولة رسمية تستقبلها إدارة #ترامب الثانية، ما يعكس المكانة الجيوسياسية المتقدمة التي تتمتع بها السعودية ليس فقط بوصفها لاعباً محورياً في استقرار المنطقة، بل أيضاً نظراً لثقلها الاقتصادي ودورها الاستراتيجي في ملفات الطاقة والأمن الإقليمي. وقد أكد الرئيس ترامب أن الزيارة ليست مجرد لقاء عادي، بل هي تكريم للمملكة العربية السعودية ولولي العهد، مشيراً إلى أنها ستكون حالة استثنائية بامتياز، في وصف لم يستخدمه لأي زعيم آخر.
وأشار الكاتب الصحفي أن زيارة ولي العهدتأتي في سياق علاقات سعودية أمريكية تاريخية تمتد لثمانية عقود، لكنها شهدت في السنوات الأخيرة تحولات نوعية تعكس تطور الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. فقد حافظ الأمير محمد بن سلمان على علاقات ودية مع ترامب، وتعزز هذا الود منذ الاستقبال الباهر الذي حظي به الرئيس الأمريكي في الرياض خلال زيارته في مايو 2025، وهي زيارة أثمرت تعهدات باستثمارات سعودية تصل إلى 600 مليار دولار، كما وافقت الولايات المتحدة خلالها على بيع السعودية حزمة أسلحة تقارب قيمتها 142 مليار دولار.
تتعدد دوافع هذه الزيارة وتتشابك بين أولويات سعودية وأمريكية، وتمتد عبر ملفات استراتيجية متعددة. من الجانب السعودي، تحتل الضمانات الأمنية الأولوية القصوى على جدول أعمال ولي العهد، خاصة في ظل الاضطرابات الإقليمية التي شهدتها المنطقة، بما في ذلك الضربات الإسرائيلية على قطر في سبتمبر الماضي التي هزت منطقة الخليج. تسعى الرياض للحصول على اتفاق دفاعي شامل مع واشنطن يشبه إلى حد كبير الاتفاق الدفاعي الذي أبرمته واشنطن مع قطر بموجب أمر تنفيذي، والذي يعتبر أي هجوم مسلح على قطر تهديداً للسلام والأمن الأمريكيين. وتطمح السعودية للحصول على ضمانات مماثلة أو أقوى نظراً لعمق ومدة العلاقات الثنائية.
وأشارأنه و على صعيد التسلح والتكنولوجيا العسكرية، تسعى المملكة لاقتناء بعض من أكثر التقنيات الأمريكية تقدماً، وعلى رأسها مقاتلات إف-35 الشبحية التي يصل سعر الواحدة منها إلى نحو 100 مليون دولار. وقد أعلن الرئيس ترامب مساء الجمعة عن موافقته المبدئية على بيع هذه المقاتلات للسعودية، واصفاً المملكة بأنها حليف عظيم. غير أن هذه الصفقة تثير جدلاً واسعاً نظراً لما قد تمثله من تغيير في التوازن العسكري بالمنطقة، خاصة أن إسرائيل كانت الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك هذه المقاتلات المتطورة.
في مجال التكنولوجيا المتقدمة، تحتل تقنيات الذكاء الاصطناعي موقعاً مركزياً في أجندة الزيارة. تسعى السعودية للحصول على رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة من شركتي نفيديا وأدفانسد مايكرو ديفايسز، وهو ما يعكس طموح المملكة لأن تصبح لاعباً عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي ضمن رؤية 2030، في منافسة مع الولايات المتحدة والصين. ومن المتوقع أن تشمل المباحثات شراكات في مراكز البيانات والتقنيات المتقدمة وبناء القدرات في هذا المجال الحيوي.
أما على صعيد الطاقة النووية المدنية أكد الكاتب الصحفي أن السعودية تطمح الي تطوير برنامج نووي مدني ضمن رؤية 2030 لتقليل الانبعاثات الكربونية وتنويع مصادر الطاقة. وقد كانت الإدارة الأمريكية السابقة قريبة من إنهاء حزمة شاملة تتضمن التعاون النووي المدني، لكن المحادثات كانت مرتبطة بالتطبيع مع إسرائيل. يبدو أن إدارة ترامب قد فصلت بين هذين الملفين، ما قد يفتح الباب أمام تقدم في ملف التعاون النووي. تسعى الرياض للحصول على تكنولوجيا نووية دون القيود الأمريكية التقليدية التي تمنع تخصيب اليورانيوم أو إعادة معالجة الوقود المستهلك، وقد تسعى أيضاً للحصول على مظلة نووية أمريكية تتضمن نشر أنظمة نووية أمريكية على الأراضي السعودية.
في مجال المعادن النادرة، تتطلع السعودية لتأمين شراكات أمريكية لتطوير مواردها من المعادن النادرة، في ظل هيمنة الصين على هذا القطاع الحيوي الذي يشكل عصب الصناعات التقنية المتقدمة. يزداد هذا الملف أهمية في ضوء التنافس الجيوسياسي بين واشنطن وبكين، وسعي الولايات المتحدة لتنويع مصادر إمداداتها من هذه المعادن الاستراتيجية.
من الجانب الأمريكي، تتصدر اتفاقيات إبراهيم وقضية التطبيع مع إسرائيل أولويات الرئيس ترامب، الذي دعا المملكة قبيل وصول ولي العهد للانضمام لهذه الاتفاقيات، معتبراً ذلك هدفاً رئيسياً للبيت الأبيض. يأمل ترامب أن تقرر السعودية إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهو ما سيمثل تقدماً كبيراً في اتفاقيات إبراهيم التي وقعها خلال ولايته الأولى. غير أن مؤشرات الموافقة السعودية تبدو ضعيفة في أعقاب الحرب بين إسرائيل وحماس، حيث أبقت الرياض التطبيع على الطاولة لكن ربطته بشرط واضح هو وجود مسار مصداق ولا رجعة فيه نحو إقامة دولة فلسطينية.
هذا الموقف السعودي يصطدم بالواقع السياسي الإسرائيلي، حيث جدد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو معارضته الشديدة لاستقلال الفلسطينيين، وترفض حكومته اليمينية الأكثر تشدداً في تاريخ إسرائيل أي تنازلات تؤدي لإقامة دولة فلسطينية. هذا التباين في المواقف يجعل من الصعب تحقيق اختراق في ملف التطبيع خلال هذه الزيارة، رغم أنه سيكون موضوعاً للنقاش بين ترامب وبن سلمان.
كما تسعى واشنطن للاستفادة من التعهدات الاستثمارية السعودية البالغة 600 مليار دولار، والتي أعلن عنها خلال زيارة ترامب للرياض في مايو. يتطلع الرئيس الأمريكي لترجمة هذه التعهدات إلى استثمارات فعلية تعزز الاقتصاد الأمريكي وتخلق فرص عمل، وهو ما يشكل أولوية قصوى لإدارته. سيشهد اليوم التالي للقاء الرئاسي انعقاد منتدى استثماري سعودي أمريكي مشترك يركز على قطاعات الطاقة والذكاء الاصطناعي، وسترافق ولي العهد وفد ضخم يضم نحو ألف شخص، بما في ذلك تقريباً كل الوزراء السعوديين، ما يعكس الجدية والشمولية التي تتسم بها الزيارة.
على الصعيد الإقليمي، تتقاطع الأجندات السعودية والأمريكية في عدة ملفات، وإن اختلفت في بعض التفاصيل. في الملف السوري، لعبت السعودية دوراً محورياً في التأثير على قرار ترامب بالإعلان عن رفع العقوبات عن سوريا واللقاء شخصياً بأحمد الشرع، زعيم الإدارة الانتقالية السورية، رغم ماضيه كقائد سابق في تنظيم القاعدة. تسعى الرياض لاستقرار سوريا ضمن رؤية شاملة لإعادة هندسة الأمن الإقليمي، وهو ما يتقاطع مع المصالح الأمريكية في المنطقة.
أما بالنسبة للسودان، فتعتبر السعودية استقراره حاسماً لأمنها القومي، وتؤمن بأن ترامب وحده القادر على وقف الدعم الخارجي للحرب الأهلية هناك، ما يجعل هذا الملف على أجندة المباحثات. وفي ما يتعلق بإيران، تختلف الرياض وواشنطن في المقاربة رغم اتفاقهما على الهدف النهائي المتمثل في هزيمة الوكلاء الإيرانيين في المنطقة. تخشى السعودية من أن الولايات المتحدة لن تكبح إسرائيل، ما قد يؤدي لجولة جديدة من الحرب في المنطقة قد تصبح المملكة هدفاً فيها. لذا تطالب الرياض بأن تستخدم إدارة ترامب الدبلوماسية بنفس القوة والحزم التي تستخدم بها القوة العسكرية.
من المتوقع أن تسفر الزيارة عن توقيع عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم تشمل مجالات الدفاع والطاقة والتكنولوجيا والاستثمار. على رأس هذه الاتفاقيات المتوقعة، اتفاق دفاعي يأتي في شكل أمر تنفيذي رئاسي بدلاً من معاهدة تتطلب موافقة الكونجرس، وهو ما يسهل إنجازه سريعاً. هذا الاتفاق، رغم أنه يقل عن المعاهدة الدفاعية الكاملة التي تطمح إليها السعودية، يمثل خطوة مهمة على الطريق وجزءاً من عملية أوسع لتعزيز الضمانات الأمنية. كما قد يشهد اللقاء الإعلان عن صفقات تجارية واستثمارية ضخمة في مجالات الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات، إضافة إلى تقدم في ملف التعاون النووي المدني، وإن كان من المستبعد التوصل لاتفاق نهائي شامل في هذا الملف خلال هذه الزيارة.
أما على صعيد صفقة مقاتلات إف-35، فرغم إعلان ترامب عن الموافقة المبدئية، تبقى هناك عقبات عملية وسياسية. يشير محللون إلى أن نظام التحكم الأمريكي في هذه المقاتلات، الذي يتضمن ما يعرف بـ"مفتاح القفل" والحاجة للحصول على إذن لنقل الطائرة من قاعدة لأخرى داخل السعودية نفسها، يمثل انتهاكاً لمفاهيم السيادة. كما أن التكلفة الباهظة لشراء وصيانة هذه المقاتلات قد تجعل السعودية تعيد النظر في جدوى الصفقة، ما لم تتخلى واشنطن عن هذه الشروط المقيدة.
تأتي هذه الزيارة وسط حفاوة استقبال استثنائية تشمل حفل استقبال رسمي صباحاً تشارك فيه فرق موسيقية عسكرية، واجتماع ثنائي في المكتب البيضاوي، وعشاء رسمي مسائي بربطة عنق سوداء يحضره كبار المسؤولين التنفيذيين الأمريكيين وصناع القرار. هذا البروتوكول الرفيع، الذي ينسقه البيت الأبيض وتشرف عليه السيدة الأولى ميلانيا ترامب، يعكس المكانة الخاصة التي تحظى بها السعودية في السياسة الخارجية الأمريكية، رغم أن الزيارة لا يمكن تصنيفها رسمياً كزيارة دولة كاملة لأن ولي العهد ليس رأس الدولة السعودية، وهو منصب يشغله والده الملك سلمان البالغ من العمر 89 عاماً، لكن الأمير محمد بن سلمان يتولى عملياً جميع المسؤوليات اليومية المتعلقة بحكم المملكة.
على صعيد الرأي العام الأمريكي، تبقى هناك تحفظات كبيرة. تشير استطلاعات الرأي إلى أن 30 بالمئة فقط من الأمريكيين يعتقدون أن السعودية تلعب دوراً إيجابياً في حل المشكلات الرئيسية التي تواجه الشرق الأوسط. كما تواجه الزيارة انتقادات من منظمات حقوق الإنسان التي تطالب بإثارة قضايا انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية، بما في ذلك الإعدامات وقمع المعارضة واعتقال الكتّاب والنشطاء. غير أن إدارة ترامب أوضحت أنها تحترم الفصل بين السياسة الداخلية والخارجية للدول، وأنها لن تملي على الدول كيف تحكم شعوبها، ما يعني أن قضايا حقوق الإنسان لن تكون على جدول الأعمال الرسمي، كما كان الحال خلال زيارة ترامب للرياض في مايو حين تجنب إثارة المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان.
كما تحوم حول الزيارة ظلال قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018، والتي خلصت الاستخبارات الأمريكية إلى أن الأمير محمد بن سلمان وافق على القبض عليه أو قتله. لكن يبدو أن هذه الصفحة قد طُويت في العلاقات الرسمية، حيث يؤكد مراقبون أن كلا الجانبين قرر المضي قدماً والتركيز على المصالح المشتركة والتحديات المستقبلية بدلاً من الجدل حول الماضي.
في الختام، تمثل زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن محطة مفصلية في العلاقات السعودية الأمريكية، وتعكس تحولاً استراتيجياً في النظام الإقليمي والدولي. المملكة لم تعد مجرد دولة نفطية، بل قوة اقتصادية صاعدة تستثمر في التحول الأخضر والذكاء الاصطناعي وتشارك في رسم سياسات الطاقة المستدامة، وتمثل حجر الزاوية في أي تحالف يرمي لتحقيق توازنات أمنية جديدة في الشرق الأوسط. الأمير محمد بن سلمان يدخل واشنطن هذه المرة ليس كحليف تقليدي، بل كقائد إقليمي يملك مشروعاً متكاملاً يتقاطع مع المصالح الأمريكية في نقاط عديدة، ويمتاز عنها في الرؤية المستقبلية.
النجاح الحقيقي لهذه الزيارة لن يُقاس فقط بعدد الاتفاقيات الموقعة أو حجم الاستثمارات المعلنة، بل بقدرتها على وضع أسس شراكة استراتيجية متوازنة ومستدامة تأخذ في الاعتبار المصالح الوطنية لكلا البلدين، وتساهم في استقرار المنطقة، وتفتح آفاقاً جديدة للتعاون في المجالات التكنولوجية والاقتصادية المتقدمة. العالم يراقب عن كثب نتائج هذا اللقاء، لأن ما سيتم الاتفاق عليه بين الرياض وواشنطن سيكون له تأثير عميق على مستقبل المنطقة والنظام الدولي برمته.
