حسن عزام يكتب : 2.9 تريليون دولار لتعليم الآلات... فماذا عن تعليم البشر
كتب /حسن عزام
في عصرنا الرقمي المتسارع حيث تتدفق مليارات الدولارات كالفيضان نحو بناء مراكز البيانات العملاقة لتدريب الأدمغة الصناعية، بداية من ذلك الرقم الهائل البالغ 2.9 تريليون دولار الذي يُستثمر في تطوير خوارزميات التعلم العميق والشبكات العصبية الاصطناعية، نجد أنفسنا أمام مفارقة صارخة تهدد مستقبلنا الحقيقي، ففي الوقت الذي تبذل فيه الدول والشركات جهوداً خارقة لتعليم الآلات كيفية التفكير والتحليل والإبداع، تتجاهل بشكل مدهش العقول البشرية التي ستقود هذه الآلات يوماً ما، ولا تُخصص لها الموارد المالية الكافية، ولا تستثمر في تطوير مناهج تعليمية متقدمة، ولا تعين الكوادر التعليمية الأكفء القادرة على صياغة جيل قادر على التعاون مع الذكاء الاصطناعي بدلاً من أن يُستبدل به، إنها فجوة خطيرة بين ما نطمح إليه من تقدم تكنولوجي وما نهمله من أساسات التنمية البشرية، فالأدمغة الصناعية تحتاج إلى مراكز بيانات ضخمة وطاقة كهربائية هائلة وخبراء في علوم الحاسوب، لكن العقول البشرية تحتاج إلى معلمين متميزين، ومناهج تفاعلية، وبيئات تعلم محفزة، وفرص تدريب عملي، وهي احتياجات لا تقل تعقيداً أو أهمية عن احتياجات الآلات، لكننا للأسف نتعامل مع التعليم كمصاريف يمكن تقليصها، في حين نعتبر الاستثمار في الذكاء الاصطناعي استراتيجية لا نقاش فيها، فنحن نُنشئ مراكز بيانات بمليارات الدولارات لتحليل البيانات الضخمة، بينما يكافح المعلمون في صفوف مكتظة بموازنات محدودة، ونبحث عن خبراء لتدريب النماذج الرياضية، بينما نتجاهل خبراء التربية والعلوم النفسية والتنموية الذين يفهمون كيف تتعلم العقول البشرية بشكل فعال، ونصمم واجهات مستخدم ذكية للآلات، لكننا لا نصمم أنظمة تعلم ذكية للبشر، وإذا استمرينا على هذا النهج فإننا لن نخلق فقط تفاوتاً اجتماعياً مدمراً، بل سنجد أنفسنا في مستقبل قريب أمام جيل من البشر غير المؤهلين لقيادة التقنية التي صنعوها، أو فهم تبعاتها الأخلاقية والاجتماعية، ومن ثم يصبح الذكاء الاصطناعي أداة بلا وعي إنساني يوجهها، بينما يتحول التعليم البشري إلى سلعة فاخرة لا يستطيع شراءها إلا القلة، مما يهدد بانقسام حضاري غير مسبوق، لذلك يجب أن ندرك هذه الفجوة الآن ونضع حداً لها قبل أن تتعمق جذورها، وأن نعيد النظر في أولوياتنا الاستثمارية، فلا يعقل أن نستثمر في أدمغة من silicon أكثر مما نستثمر في أدمغة من لحم ودم، ولا يجوز أن نخصص مليارات لتعليم الآلات بينما نترك تعليم البشر للصدفة، بل يجب أن يكون تمويل التعليم الجيد والمعلمين المتميزين والبحوث التربوية على قدم المساواة مع تمويل البحوث التقنية، وأن نرى في كل معلم خبيراً استراتيجياً بقدر ما نرى في كل مهندس ذكاء اصطناعي مخططاً للمستقبل، فالذكاء الاصطناعي سيكون قوة خيرة إذا كان يُستخدم بذكاء بشري، وستكون كارثة إذا كان يُقود بجهل إنساني، لذا فإن المسار الصحيح ليس اختياراً بين الاستثمار في الآلات أو البشر، بل هو الاستثمار المتزامن والمتكافئ في كليهما، لأن مستقبلنا لا يُبنى بأدمغة صناعية فحسب، بل بعقول بشرية قادرة على أن تحلم، وتشعر، وتقيم، وتقرر، وتضع الحدود الأخلاقية، وتصنع المعنى، وهي مهام لا تستطيع الآلات القيام بها مهما تطورت، وبالتالي فإن الوقت قد حان لوقف هذا الارتباك الاستراتيجي، ولجعل التعليم البشري أولوية وطنية وعالمية تستحق منا نفس الحماسة والتمويل والتخطيط الذي نمنحه لمراكز البيانات، فليس هناك ذكاء اصطناعي ناجح بدون عقول بشرية ناجحة تصنعه وتوجهه، ولا يوجد تقدم حقيقي بدون إنسان قادر على فهم هذا التقدم واستثماره لخير البشرية جمعاء.






