الصندوق الاسود إلي دوله محايده لكشف لغز الطائرة الليبية المنكوبة
تشهد التحقيقات المتعلقة بحادث تحطم الطائرة التي كانت تقل الفريق أول محمد علي الحداد، رئيس الأركان العامة بحكومة الوحدة الوطنية الليبية، تطورًا لافتًا مع إعلان السلطات التركية بدء التحليل الفني للصندوقين الأسودين للطائرة في دولة محايدة لضمان الشفافية والمصداقية. وأوضحت أن عملية الفحص ستشمل مسجلات الصوت والبيانات بهدف تحديد سبب السقوط بشكل دقيق، خاصة بعد إعلان الطيار حالة طوارئ بسبب عطل كهربائي عام، ثم انقطاع الاتصال قبل سقوط الطائرة قرب العاصمة أنقرة. هذا القرار التركي بإجراء التحليل خارج أراضيها يعكس حساسية الحادث وطبيعته المعقدة، ويفتح الباب أمام تساؤلات واسعة ليس فقط حول سبب الوفاة، بل حول تداعياتها على المشهد العسكري والسياسي في ليبيا.
وتأتي هذه التطورات في وقت تمثل فيه اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 أحد أهم الأعمدة التي تقوم عليها العملية العسكرية والسياسية في ليبيا منذ تأسيسها برعاية الأمم المتحدة عام 2020. وتتكون اللجنة من خمسة ضباط يمثلون القوات العسكرية في الغرب الليبي وخمسة ضباط يمثلون القوات العسكرية في الشرق، وتعمل على تثبيت وقف إطلاق النار ومراقبة خطوط التماس وتأمين الطرق الرئيسية بين الشرق والغرب، بالإضافة إلى الإشراف على ملف توحيد المؤسسة العسكرية والبحث في آليات إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية، وهو الملف الأكثر حساسية وتأثيرًا على مستقبل الاستقرار في البلاد.
وخلال السنوات الماضية، لعب الفريق أول محمد علي الحداد دورًا محوريًا داخل هذا المسار، بوصفه القائد العسكري الأعلى في المعسكر الغربي وشخصية تمتلك حضورًا واحترامًا في الشرق أيضًا، الأمر الذي جعله حلقة وصل مهمة في حوارات اللجنة العسكرية المشتركة. وتميز الحداد بقدرته على التوازن بين القيادة السياسية في طرابلس والمؤسسة العسكرية الرسمية وعدد من التشكيلات المسلحة المؤثرة في الغرب، كما كان داعمًا أساسيًا لمسار توحيد الجيش، ومشاركًا فعالًا في الاتصالات والتفاهمات مع قيادات عسكرية من الشرق الليبي.
ومع الإعلان عن وفاته المفاجئة برفقة عدد من كبار الضباط، تبرز مخاوف حقيقية بشأن مستقبل أعمال اللجنة العسكرية المشتركة وإمكانية استمرار مسار توحيد المؤسسة العسكرية بوتيرته الحالية. فغياب شخصية بثقل الحداد قد يؤدي إلى تباطؤ في أعمال اللجنة وتأخير خطوات إعادة بناء المؤسسة العسكرية، إضافة إلى التأثير على ملف إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية، خصوصًا أن هذا المسار يعتمد بدرجة كبيرة على وجود ثقة متبادلة وقيادات تمتلك القدرة على التواصل والتهدئة وإدارة الخلافات. كما يدور التخوف من أن يؤدي هذا الفراغ إلى عودة التنافس داخل المنطقة الغربية نفسها إذا لم يتم اختيار بديل يمتلك الكفاءة والقبول نفسه داخل المشهد العسكري.
وبينما تواصل لجان التحقيق عملها لمعرفة ما إذا كان الحادث نتيجة خلل فني أم وراءه شبهة أخرى، يطرح المشهد الليبي تساؤلًا محوريًا حول من قد يكون مستفيدًا سياسيًا أو عسكريًا من رحيل الحداد. فمن الواضح أن غياب رجل كان يدفع باتجاه المأسسة وتوحيد القوات قد يخدم أطرافًا داخلية لا ترغب في قيام مؤسسة عسكرية موحدة وتفضل استمرار نفوذ التشكيلات المسلحة والولاءات المحلية. كما أن بعض القوى التي ترى في انفتاح الحداد على الشرق ونجاحه في خلق أرضية تواصل مشتركة تهديدًا لمصالحها قد تجد في رحيله فرصة لإعاقة مسار التقارب العسكري بين الطرفين.
ولا يمكن إغفال البعد الإقليمي والدولي، فالعلاقة العسكرية بين ليبيا وتركيا شهدت في السنوات الأخيرة تنسيقًا واسعًا كان الحداد جزءًا مهمًا فيه، وبالتالي فإن أي جهة تنظر بعين القلق إلى هذا التعاون قد ترى في غيابه مكسبًا سياسيًا أو استراتيجيًا. كذلك فإن القوى المستفيدة من بقاء المرتزقة والقوات الأجنبية على الأراضي الليبية هي من الأطراف التي قد تجد نفسها رابحة من أي اضطراب في المسار الذي كانت لجنة 5+5 تعمل عليه.
في النهاية، تبقى وفاة محمد علي الحداد حدثًا يتجاوز بعده الإنساني والعسكري إلى بعد أعمق يتعلق بتوازن القوة في ليبيا ومستقبل مشروع توحيد الجيش ومسار الاستقرار الأمني. أما الإجابة الحاسمة حول سبب الحادث ومن قد يكون له مصلحة مباشرة فيه فستظل معلقة إلى حين صدور نتائج التحقيق الرسمية وتحليل الصندوق الأسود، بينما يبقى التحدي الأكبر أمام ليبيا اليوم هو كيفية تجاوز هذه الخسارة دون السماح بعودة الانقسام أو تعطيل المسار العسكري الذي يعد أساس أي استقرار سياسي مقبل.



