الأحد 4 ديسمبر 2022 | 10:01 ص

مصر في قلب تداعيات الأزمة الدولية للحرب الأوكرانية


الحقيقة أن هذا الموضوع على أهميته، لم يصبح بعد موضعا لأي تناول مدقق، لكن أهميته تفرض المحاولة، لعلها تكون الحجر الذي يحرك الماء الراكد، وسوف نبدأ بمصر. 

تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في وقف تصدير الحبوب من أوكرانيا، وعطلت العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، خطوط الإمداد بالمواد الغذائية والأسمدة والطاقة، ما أحدث نقصا على مستوى العالم، وأكد حقيقة ساطعة، لم نكن قد لاحظناها من قبل، وهي ان روسيا وأوكرانيا سلة غذاء العالم عن حق، وان تأثيرهما على الدنيا يتجاوز نقص السلع الى التأثير على الصناعة ومناخ الاستثمار والأعمال ومعدلات النمو والتضخم المؤدى الى الركود.. أسعار القمح ارتفعت في مايو ووصل سعر الطن 435 دولارًا مقابل 270 دولارًا قبل الحرب، برميل النفط ارتفع من 45 دولارًا في مايو 2021 إلى 112 دولارًا في مايو 2022، كما ارتفع سعر طن الذرة من 280 دولارًا في مايو 2021 إلى 305 دولار في مايو 2022.. الحرب الأوكرانية عصفت باقتصاديات دول العالم، َّدون استثناء.

مصر تتصدر قائمة الدول المستوردة للقمح في العالم، وتؤمِّن أكثر من 80% من احتياجاتها الاستيرادية من روسيا وأوكرانيا مجتمعتَين، وبالتالي فإن اختلال سلاسل الامداد، بما أدى اليه من رفع للأسعار، وعرقلة وصول الكميات المتعاقد عليها في مواعيدها، جعل مصر من أكثر دول العالم تأثرا بالتداعيات الاقتصادية التي ترتبت على الحرب، ولولا حسن تخطيط الدولة، والتبكير ببناء شبكة من صوامع التخزين للاحتفاظ باحتياطي ضخم، لوقعت كارثة لا يمكن التنبؤ بنتائجها.

تأثيرات الحرب
الحكومة المصرية درست في مايو 2022 التأثير المباشر وغير المباشر للحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد، وقدَّرته في حدود 465 مليار جنيه، تتعلق بارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية والبترول، وأسعار الفائدة، والتراجع في السياحة الوافدة من روسيا وأوكرانيا.. هذا المبلغ يستنفذ في الحقيقة قرابة ثلث الإيرادات المقدرة في ميزانية 2022/2023 وهي 1.52 تريليون جنيه، مما يؤكد وطأة الأزمة على مصر.  

قيام البنك الفيدرالي الأمريكي برفع معدلات الفائدة عدة مرات متتالية، أدى الى اجتذاب رؤوس الأموال الساخنة من دول العالم، وكالة «ستاندرد آند بورز» للتصنيف الائتماني، أكدت خروج ما يقدر بنحو 20 مليار دولار من مصر، الى الولايات المتحدة، منذ بداية الأزمة في فبراير 2022 وحتى مايو من نفس العام، وذلك بعد ان اعتمدت عليها مصر على مدى السنوات الخمس السابقة.. مستوى التضخم في سبتمبر وصل الى 15% وهو الأعلى خلال أربعة أعوام.. وزير المالية المصري لم يخف تخوفاته المتعلقة باحتمالات الكساد والبطالة وتراجع معدلات التنمية.

وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني أبقت في شهر مايو على تصنيفها لمصر عند «B2»، لكنها غيرت نظرتها المستقبلية من مستقرة الى سلبية، وذلك لتوقعها ضعف التدفقات النقدية نتيجة شروط التمويل العالمية المتشددة، لكنها استدرجت بأن نمو الناتج المحلى الإجمالي في مصر يدعم المرونة الاقتصادية وإمكانية جذب الاستثمارات الأجنبية.. عودة الرواج السياحي، وعقود الاستثمار التي تم توقيعها خلال مؤتمر المناخ، وطرح حصص من بعض المشاريع الناجحة، غالبا سوف تُحَسِّن الموقف.   

السياحة المصرية واحدة من خمس أنشطة رئيسية تجلب إيرادات العملة الأجنبية لمصر، وهي «الصادرات، تحويلات العاملين بالخارج، قناة السويس، والاستثمار الأجنبي».. لكن السياحة تأثرت بشدة بالحرب الروسية الأوكرانية، لأن 31% من إجمالي الحركة السياحية الوافدة لمصر خلال الفترة من يوليو 2021 حتى يناير 2022 كانت وافدة من الدولتين المتحاربتين، كما ان السياحة الوافدة من الأسواق الأوروبية ، تراجعت أبضا نتيجة معاناة الأوروبيين من التضخم وارتفاع أسعار مصادر الطاقة الواردة من روسيا، وبالتالي فإن فواتير الكهرباء والغاز قد ابتلعت معظم دخولهم.
ولقد كان المتوقع في ضوء ذلك ان يضرب الركود قطاع السياحة المصري، بما لذلك من تداعيات سلبية على معدلات البطالة وانخفاض الدخل السياحي وميزان المدفوعات، غير ان هناك إجراءات أخرى خففت من وقع الأزمة، أهمها: أولها ما جلبته قمة المناخ من حركة سياحية وافدة.. ثانيها طرح بديل لاجتذاب الأوروبيين للإقامة فترات طويلة، هروبا من صقيع بلادهم، ومن فواتير الطاقة المرتفعة، الى بلاد الشرق الأوسط الدافئة نسبيا والتي لا تعاني من أزمة طاقة مثل مصر وتركيا.. ثالثها تعويم الجنيه المصري في شهر أكتوبر، ما أدى الى انخفاض قيمته قياسا للعملات الأجنبية، الأمر الذي شجع على جلب المزيد من الحركة الوافدة، خاصة مع استمرار معظم المنشآت السياحية في سياسة حرق الأسعار. 

الأزمة الدولية في الحبوب، رفعت أسعار الخبز الحر «غير المدعم» في مصر، كما ان ارتفاع أسعار الذرة المستخدمة في الأعلاف، أدي الى طفرة في أسعار البروتينات الغذائية «اللحوم والدواجن والأسماك» التي يتم تربيتها في المزارع.. الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قدر في نوفمبر ان 20% من الأسر المصرية قد تآكلت دخولها، ومع الارتفاع في الأسعار اضطرت 74% من الأسر الى خفض معدلات استهلاكها للسلع الغذائية بصفة عامة.. وحوالي 90% من الأسر قلّ استهلاكها من البروتينات.. والحقيقة ان هذه الأرقام مفزعة، لأنها صعبت ظروف المعيشة على المواطنين بصورة تفوق الآثار الاقتصادية للحرب على الدولتين المتحاربتين «روسيا وأوكرانيا».. تأثيرات الأزمة الدولية بمثابة تكسير عظام، لكن ذلك لا ينفى ان مصر قد أدارتها بقدر من الحكمة، جنبها السقوط في هاوية الافلاس.    

الأمن الغذائي تصدر اهتمامات الدولة المصرية في مواجهة الأزمة الدولية، ولعل ذلك يفسر تقديم حوافز للمزارعين لزراعة القمح وبيعه لها، من أجل سد جزء من الفجوة المتوقعة في واردات الحبوب، ما أدى الى ارتفاع مساحة الأراضي المنزرعة بالمحصول إلى 3.6 ملايين فدان بزيادة تقدر بـ 400 ألف فدان عن عام 2021، وتجاوز حجم الإنتاج المحلي الـ 10 ملايين طن من القمح لأول مرة في تاريخ مصر، مما يسمح بتغطية معظم احتياجاتنا حتى نهاية 2022، لكن الفجوة الاستيرادية لاتزال واسعة حيث تستهلك مصر بين 17 و18 مليون طنًا قمح سنويًا.. ومن ناحية أخرى فإن هناك توسعا مماثلا في زراعات البرسيم ومستلزمات الأعلاف خاصة في الأراضي المستصلحة الجديدة في توشكي والصحراء الغربية، بهدف سد جزء من الفجوة الغذائية في مجال البروتين الغذائي.

مصر اضطرت لإجراء تخفيض في قيمة الجنيه بنسبة «17%» خلال شهر مارس 2022، ثم اضطرت لتعويمه في شهر أكتوبر من نفس العام، فتراجعت قيمته من جديد، وتم تقييد عمليات الاستيراد للسيطرة على خروج العملات الأجنبية، وتجنب التأثير على الاحتياطي، وقد أثر ذلك في مجمله على بعض قطاعات الإنتاج، وكذا على توافر قطع الغيار بالأسواق.. فاتورة زيادة الأجور والمعاشات والحماية الاجتماعية وزيادة حد الإعفاء الضريبي التي تم إقرارها لدعم الاحتياجات المعيشية للمواطنين في مواجهة الأزمة تقدر بنحو 335 مليار جنيه، من اجمالي الأعباء التي فرضتها الحرب على الدولة.. وهناك توجه بعرض حصص للبيع في الشركات المملوكة للدولة والجيش، بما فيها بعض الأنشطة داخل 7 موانئ، لجلب 40 مليار دولار خلال 4 سنوات.. ولا نغفل أهمية منح شركات التنقيب امتيازات للبحث عن النفط والغاز في مناطق جديدة بالصحراء الغربية والدلتا والبحر المتوسط والأحمر، فالاكتفاء الذاتي في النفط، والتوسع في تصدير الغاز هو الأمل الذي يقترب نحو مستقبل أفضل.. الأزمة جد خانقة، لكن لا ينكر سوى جاحد، ان الدولة تلهث للحد من تداعياتها، ربما كان هناك قلقا شعبيا من بيع بعض الأصول، لكن السعودية تبيع حصص في أرامكو، فهل ذلك مؤشر على انهيار اقتصادي، او تنازل عن السيادة ؟!.

استعرضنا فيما سبق انعكاسات الحرب الأوكرانية والأزمة الدولية التي سببتها على مستقبل الاقتصاد المصري، ولكن لا يمكننا انهاء الموضوع قبل التعرض لتأثير الأزمة على علاقات القاهرة بموسكو، فعلى المستوى السياسي تربط مصر بروسيا علاقات استراتيجية «المشتريات العسكرية، المحطة النووية في الضبعة، العلاقات الاقتصادية والتجارية...».. هجوم القوات الروسية على أوكرانيا، وضع مصر في موقف حرج، يفرض الاختيار بين علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، ونظيرتها مع الولايات المتحدة، لكن مصر نجحت في معالجة الأمر بالدبلوماسية، حيث صوتت في مجلس الأمن مع قرار إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، ثم أصدرت بيانا موازيا دعت فيه لمعالجة هواجس الأمن القومي المشروعة لروسيا في أوكرانيا، كما انتقدت العقوبات الغربية ضد موسكو، مُعتبرةً أنها لا تتمشي مع قواعد القانون الدولي.    

والحقيقة ان هناك بعدا في سياسة الطاقة الروسية - التي تعتبر أحد ملفات الأمن القومي الروسي بالغة الأهمية- يرتبط مباشرة بالمصالح المصرية، ما يفرض تجنب الرعونة في التعامل مع الأزمة، فقد أدت الحرب الى سعي أوروبا لإيجاد مصادر بديلة لاستيراد الطاقة من روسيا، وعلى رأسها غاز شرق البحر المتوسط.. لكن استشراف الرؤية الروسية الناجح للمستقبل، كان قد وجه شركة «روس نفط» الحكومية الروسية في ديسمبر 2016 الى توقيع اتفاق مع شركة «إيني» الإيطالية، حصلت بمقتضاه على 30% من حصة الأخيرة في حقل «ظهر» المصري، أهم وأضخم الاكتشافات في شرق المتوسط.. ويعكس هذا الاجراء حرص روسيا المبكر على التمسك باستمرار التأثير السياسي لصادرات الطاقة الى أوروبا، وهو الأمر الذي ضمن لروسيا الحصول على 30% من حصة الشركة الإيطالية من اجمالي مبيعات حقل «ظهر»، بهدوء، ورغم كل العراقيل المفروضة على عمليات تصدير الغاز الروسي لأوروبا.. ذلك أحد الأبعاد الخفية للاهتمام الاستراتيجي من جانب موسكو في علاقتها بمصر.

مصر تمتلك من المقومات ما يساعدها على مواجهة تلك الأزمة الدولية الطاحنة، كما ان آليات ادارتها للأزمة تشير الى ادراكها ان سنوات الأزمة ستكون بمثابة عنق الزجاجة، الذي ان اجتازته ستنطلق كأحد القوى الإقليمية والدولية الهامة، وذات الشأن في العالم.