"طبيب المقبرة"... نظام الرعاية الصحية في الحضارة المصرية القديمة
ما زالت الحضارة المصرية القديمة تفصح عن أسرارها عبر الاكتشافات والدراسات الأثرية التي تُبرز دور العاملين في بناء معالمها، وكيفية التعامل مع التحديات الصحية التي واجهوها نتيجة بيئات العمل الشاقة، مثل المحاجر وأعمال البناء. هذه البيئات كانت مصدرًا للعديد من المخاطر الصحية كاستنشاق الغبار، الإصابات الناتجة عن الأدوات الحادة، أو السقوط من السقالات.
في دراسة حديثة للباحثة الأثرية رنا التونسي، تم تسليط الضوء على الجهود التي بذلتها الدولة المصرية القديمة لحماية العمال صحيًا، بهدف تحسين أدائهم والإبقاء على إنتاجيتهم. وأشارت الدراسة إلى تخصيص أماكن لعلاج الإصابات الطارئة داخل المدن العمالية، وتوفير أطباء ومساعدين في مواقع العمل لمعالجة الإصابات الناتجة عن حوادث العمل أو لدغات العقارب والثعابين.
"طبيب المقبرة" ودوره في مواقع العمل
كشف الدكتور عبد الرحيم ريحان عن وجود طبيب متخصص عُرف باسم "طبيب المقبرة"، كان مسؤولًا عن تقديم الرعاية الصحية للعاملين في المقابر الملكية. ومن أبرز الأدلة على ذلك، تمثال الطبيب "بوير" الذي يعود إلى عصر الأسرة التاسعة عشرة والمحفوظ بمتحف الفاتيكان، والذي نقش عليه لقبه "كبير الأطباء في الجبانة".
إلى جانب ذلك، تم توثيق وجود مساعد طبي يُدعى "الملازم الطبي"، الذي كان يشارك العمال في حياتهم اليومية ويقدم لهم العلاج عند الحاجة. وتشير الأدلة الأثرية إلى أسماء أطباء آخرين مثل "خع-منو"، الذي ذُكر في بردية تورين بوصفه كبير الأطباء المسؤول عن فريق العمال.
دقة التخصص الطبي
تظهر النقوش في مقبرة "إيبوي"، التي تعود إلى عهد الملك رمسيس الثاني، مشاهد لأطباء يعالجون إصابات العمال، مثل إزالة جسم غريب من العين أو تجبير كوع أحدهم. هذه النقوش تؤكد وجود مراكز إسعاف أولية قرب مواقع العمل، مما يشير إلى وعي الدولة بأهمية الاستجابة السريعة للإصابات.
الرعاية الاجتماعية والصحية
تضمنت الرعاية الصحية في مصر القديمة إجازات مرضية مدفوعة الأجر للعمال. وأوضحت إحدى الأوستراكا من دير المدينة أنه لم يكن يُسمح لرئيس العمال بإجبار العامل المريض على أداء مهام شاقة. كما أولت الدولة اهتمامًا كبيرًا بتوفير الغذاء المناسب للعمال، لضمان حالتهم الصحية أثناء إنجاز المشاريع الكبرى.
تُظهر هذه التفاصيل مدى تطور نظم الرعاية الصحية والاجتماعية في مصر القديمة، التي سعت للحفاظ على سلامة عمالها، مما يعكس رؤية متقدمة لدور الصحة في تحقيق الإنجازات الحضارية.