أطفال يولدون بالسلاسل والقيود.. حكايات 9 أمهات أسيرات أنجبن داخل سجون الاحتلال
بين جدران باردة وأسلاك شائكة وأبواب فولاذية، كان يفترض أن تُسمع ضحكات المواليد الأولى وهم في حضن أمهاتهم، لكن الاحتلال الصهيوني حوّل لحظات الميلاد إلى مشاهد قهر وقسوة لا يصدقها عقل. هناك، في زنازين ضيقة وروائح عفنة، وُلدت طفولة بريئة مكبّلة بالقيود قبل أن ترى نور الحرية. تسع أسيرات فلسطينيات كُتبت لهن تجربة استثنائية تجمع بين أوجاع المخاض وأغلال السجان، بين حليب الأم ورائحة الدم والحديد، وبين الحلم بطفولة آمنة والواقع الذي سرق من أطفالهن حضن الدفء.
كانت كل ولادة بمثابة معركة جديدة، لا بين الحياة والموت فقط، بل بين أمومةٍ تُصرّ على الانتصار، واحتلالٍ أراد أن يطفئ شعلة الحياة في رحم الأمهات. أنجبن وهنّ مقيدات، مُراقبات بعيون الجنود، وسمعن صرخات أطفالهن الأولى تتردد بين جدران السجن بدل أن تملأ فضاء الحرية. لم يعرف هؤلاء الأطفال سريرًا ناعمًا أو مهدًا آمنًا، بل قضوا شهورًا وسنوات بين جدران الزنازين، قبل أن يُنتزعوا من أحضان أمهاتهم قسرًا بحجة القوانين العسكرية.
في كل بقعة من هذا الوطن الجريح، هناك قصص تبكي الحجر وتشهد أن الاحتلال لم يكتفِ بمصادرة الأرض والحرية، بل حاول سرقة حتى لحظة الميلاد. بين جدران الزنازين الباردة وأسلاك السجون الشائكة، تحولت الأمهات الفلسطينيات إلى أيقونات للصمود، ينجبن أطفالهن تحت سطوة السجان، مكبلات بالأغلال، في مشهد يختصر قسوة هذا العالم وصمته.
وبحسب إحصاءات هيئة الأسرى والمحررين الفلسطينية، ونادي الأسير الفلسطيني، فإن تسع نساء فلسطينيات حملن الألم والأمل معًا، خضن تجربة الأمومة خلف القضبان، فكنّ بين آلام المخاض وقسوة السلاسل، بين صرخات الولادة وأوامر الجنود، بين دموع الفرح بمولود جديد ودموع الفقد حين يُنتزع الأطفال من أحضانهن. قصصهن ليست مجرد وقائع تاريخية، بل حكايات إنسانية خالدة تكشف للعالم أن رحم المرأة الفلسطينية أقوى من السجان، وأن الحياة قادرة على أن تولد حتى من قلب العتمة.
إنها ليست مجرد حكايات عن أمهات أسيرات، بل شهادة دامغة على إصرار الحياة وسط الموت، وعلى صمود المرأة الفلسطينية التي أثبتت أن رحمها يمكن أن يهزم القيود، وأن دموعها تتحول إلى نهر من العزيمة. تسع نساء، تسع معارك، تسع ولادات استثنائية كتبها التاريخ بمداد الألم والفخر. لقد وُلد أطفال بأسماء كـ"نادية" و"فلسطين" و"نور" و"يوسف"، لتكون أسماءهم رسائل للأرض وللتاريخ، أن الحياة أقوى من القيد، وأن الأمهات الفلسطينيات سيبقين حارسات الحلم وحاميات الذاكرة، مهما طال الليل، ومهما أثقل السجن.
** زكية شموط.. الطفلة الأولى خلف القضبان
كانت زكية شموط، ابنة حيفا المولودة عام 1945، أول أسيرة فلسطينية تنجب مولودتها داخل السجن. اعتقلها الاحتلال عام 1971 وهي في شهرها الخامس، وحكم عليها بـ 12 مؤبدًا. لم يرحموا جسدها الضعيف ولا حملها، فمارسوا عليها أبشع التعذيب. وفي 18 فبراير 1972 جاءها المخاض داخل زنزانة انفرادية، فأنجبت ابنتها "نادية" بمعجزة وبمساعدة الأسيرات. بقيت الطفلة عامًا واحدًا معها، قبل أن تُنتزع منها. أطلق سراح زكية عام 1983 في صفقة تبادل وأبعدت إلى الجزائر، حيث توفيت عام 2014، وبقيت قصتها شاهدًا على بداية حكاية "الأمومة خلف القضبان.
زكية لم تكن مجرد أسيرة أنجبت، بل رمزًا للأولى التي كسرت جدار الصمت، لتعلن أن رحم المرأة الفلسطينية قادر على أن يقهر حتى الزنزانة.
** ماجدة السلايمة.. طفلة باسم فلسطين
في فبراير 1978، اعتقل الاحتلال ماجدة السلايمة من القدس وهي عائدة من الأردن. كانت في شهرها السادس من الحمل، وهناك في المعتقل وضعت طفلتها. لم تجد اسمًا أصدق من "فلسطين" تهديه لمولودتها، ليكون الاسم رسالة بحد ذاته. أُطلق سراحها في صفقة تبادل عام 1985، لكن "فلسطين" بقيت تحمل حكاية الميلاد المقيد كرمز لكل الأجيال.
اسم الطفلة هنا لم يكن اختيارًا عاديًا، بل فعل مقاومة بحد ذاته، لتبقى كل مناداة باسمها بمثابة تذكير بالوطن الأسير.
**أميمة الأغا.. ولادة مكبلة بالسلاسل
في 9 يونسو 1993، اعتُقلت أميمة الأغا على معبر بيت حانون وهي حامل. لم يمهلها السجن كثيرًا؛ ففي 4 تشرين الأول أنجبت طفلتها "حنين" وهي مقيدة الأيدي والأرجل في سجن "تلموند". قضت الصغيرة عامين كاملين بين جدران الزنزانة قبل أن تنتزع منها قسرًا. بقيت أميمة في الأسر حتى 1997، تحمل معها وجع لحظة فصل الأم عن طفلتها، جرحًا لا يندمل في قلب كل أسيرة.
حين يُفصل الطفل عن أمه لا تنتهي المأساة عند تلك اللحظة، بل تبقى ندوبها أبدية، شاهدة على ظلم الاحتلال وبشاعة قوانينه.
**ميرفت طه.. ميلاد على السلاسل
ميرفت، ابنة القدس ذات الـ21 عامًا، اعتُقلت عام 2002. وفي فبراير 2003 جاءها المخاض، فأنجبت طفلها "وائل" وهي مقيدة بالسلاسل في مستشفى "آساف هاروفيه". كان المشهد صادمًا: أم شابة مكبلة تضع مولودها الأول تحت حراسة الجنود. بعد ثلاث سنوات من الاعتقال خرجت ميرفت مع ابنها إلى الحرية، كأنهما وُلدا معًا من جديد.
ولادة وائل جسّدت معنى مزدوجًا: ميلاد طفل وميلاد أمل، بأن الحرية ممكنة حتى بعد أشد القيود.
**منال غانم.. دموع التوأم
في مخيم طولكرم، اعتُقلت منال غانم عام 2003 وهي أم لأربعة. بعد شهور أنجبت توأمين، عاش أحدهما وهو "نور"، بينما فارق الآخر الحياة فور ولادته. حملت الأم الحزن في قلبها وهي تحتضن طفلًا وتودع آخر. بقي نور معها حتى عام 2006، ثم انتزعوه منها ليصبح لقاءهما من خلف زجاج بارد. خرجت منال عام 2007، لكن ذكرى دموعها يوم الولادة بقيت محفورة في وجدانها.
قصة منال لم تكن مجرد مأساة أمومة، بل شهادة على أن الاحتلال يسرق حتى فرحة الحياة حين يقترن الميلاد بالفقد.
6- عائشة الكرد.. قيد على معصم وأذان في الأذن
في 17 يونيو 1988، جاءها المخاض وهي مقيدة في مستشفى عسكري إسرائيلي. عند أذان المغرب وُلد طفلها "ياسر"، لتهمس في أذنه بالشهادتين بينما القيود تشد معصمها. لم تدم فرحتها طويلًا؛ أفرج عنها بعد يومين فقط، ووضعت تحت الإقامة الجبرية لسنوات. كبر ياسر وحمل حلم الحرية، لكنه استشهد عام 2014 حين قصفت الطائرات الإسرائيلية منزلهم في غزة.
هنا تكتمل الحكاية: من ولادة مقيدة إلى شهادة ابنها، لتظل عائشة عنوانًا للأمومة التي لا تنكسر حتى بالموت.
**سمر صبيح.. القيصرية المقيدة
في خريف 2005، اعتُقلت سمر صبيح من طولكرم وهي حامل في شهرها الثالث. بعد شهور، وفي 30 أبريل 2006، أجريت لها عملية قيصرية لتضع طفلها "براء"، لم يفكوا قيودها إلا لحظة دخول غرفة العمليات، ثم أعادوها إليها فور خروجها. بقيت مع طفلها عامين حتى أطلق سراحهما معًا نهاية 2007. كبر براء وهو يحمل ذاكرة الميلاد خلف القضبان، كأن حياته بدأت معركة.
صورة أم مقيدة على سرير العمليات تختصر قسوة الاحتلال وتفضح عجز العالم عن التدخل لإنقاذ براءة الطفولة.
فاطمة الزق.. يوسف ابن السجن
من حي الشجاعية في غزة، اعتقلت فاطمة الزق عام 2007 وهي حامل في شهرها الثاني. في يناير 2008 أنجبت طفلها "يوسف" في مستشفى "مائير"، وعاش معها في السجن عامًا ونصف العام، حتى أُفرج عنهما معًا في أكتوبر 2009. صار يوسف يُلقب بـ"ابن السجن"، طفل لم يعرف في بداياته سوى الجدران العالية وأبواب الحديد، لكنه خرج ليحمل شهادة على عجز الاحتلال أمام إرادة الحياة.
يوسف لم يكن مجرد طفل، بل عنوانًا لمرحلة، اسمه صار صرخة في وجه العالم: أن الأطفال يولدون حتى في قلب السجون.
** سميحة حمدان.. الطفلة ثائرة
في صيف 1981، اعتقلت قوات الاحتلال سميحة حمدان من بيت لحم وهي في شهرها السابع. بعد أسابيع، وضعت طفلتها "ثائرة" في مستشفى الرملة. عاشت الطفلة عامين بين جدران الزنزانة لا تعرف سوى وجه أمها وبعض الأسيرات. وحين أفرج عن سميحة عام 1985، لم يسمحوا لها بالعودة إلى بيتها، بل أبعدوها إلى الأردن. حملت ثائرة اسمها ومعناه، شاهدة على أن الميلاد في السجن لا يطفئ جذوة الحرية.
ثائرة لم تكن مجرد طفلة، بل اسمها كان قدرها، لتبقى قصتها دليلًا على أن الاحتلال لا يستطيع محو المعنى الذي يولد مع الاسم.
**رحمٌ يهزم السجان
قصص هؤلاء النسوة التسع ليست مجرد أحداث فردية، بل مرآة لمعاناة ممتدة تكشف أن الاحتلال لم يترك جانبًا من الحياة إلا وحاول تشويهه. الأمومة، التي هي أقدس ما في الوجود، تحولت في الزنازين إلى ساحة صراع بين قسوة الجلاد وعزيمة المرأة الفلسطينية. ومع ذلك، لم ينتصر السجان، لأن كل صرخة ميلاد خلف القضبان كانت إعلانًا جديدًا أن الحياة أقوى من الموت.
لقد وُلدت "نادية" و"فلسطين" و"حنين" و"نور" و"وائل" و"يوسف" و"ثائرة" و"براء"، كأسماء محفورة في الذاكرة الوطنية، تحمل رسائل للأرض والتاريخ. هؤلاء الأطفال لم يكونوا مجرد مواليد، بل سفراء حياة وسط العتمة، وأدلة على أن السجن لا يمكن أن يحبس الروح.
إنها شهادة إنسانية للعالم أجمع، بأن المرأة الفلسطينية ليست فقط أمًّا أو أسيرة، بل حارسة للذاكرة ووريثة للصمود. وإن كان الاحتلال قد كبّل الأيدي والأرجل، فإنه لم ينجح يومًا في تقييد الأرحام التي أنجبت أطفالًا من نور وسط ظلام الزنازين.

