الأحد 9 نوفمبر 2025 | 02:09 م

حسام السويفي يكتب: مكارثية المعارضة


لم يكن السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي، الذي التصقت باسمه المكارثية، وهي تلك الممارسة السياسية التي اعتمدت على ترويع الخصوم باتهامات جاهزة بالخيانة والتجسس دون أدلة، يدرك أن فكرته القمعية ستجد من يحييها بعد عقود، ولكن هذه المرة في معسكر من كان يوما ضحية لها وهو  تيار اليسار.

فخلال الخمسينيات، تحولت المكارثية إلى سلاح رسمي في يد أجهزة الدولة الأمريكية، تحت شعار مواجهة الشيوعية. كان كل من يرفع صوته بالنقد، أو يتبنى رأيا مغايرا، عُرضة لأن يساق إلى المحاكم أو يطرد من عمله أو ينبذ اجتماعيا، واليوم، تعود الروح نفسها، ولكن بأسماء مختلفة، وأقنعة منمقة تدعي الدفاع عن الحرية والتنوير.

في مشهد متناقض حدّ الصدمة، يتبنّى قطاع واسع من رموز اليسار المعاصر في مصر والعالم العربي خطابا لا يقل قمعا عن خطاب مكارثي نفسه، فمن يختلف معهم أو ينتقد رموزهم، يصنف فورا بأنه "عميل"، أو "أداة للنظام"، أو "مدسوس"، أو حتى "تابع للأجهزة".

 تطلق الأحكام جزافا، كما لو أن الانتماء إلى اليسار يمنح صاحبه حق الوصاية على الوطنية والعقلانية والضمير العام.

هذه الظاهرة لم تعد محصورة في النقاشات الافتراضية أو السجالات الإعلامية، بل تسللت إلى أروقة النقابات والنقاشات المهنية والثقافية.

 في نقابة الصحفيين مثلا، يتكرر المشهد بشكل صارخ، فكلما انتقد أحد الزملاء مواقف التيار اليساري بقيادة النقيب، أو توجهات التيار اليساري المسيطر عليها، انهالت عليه اتهامات التخوين والتبعية، وكأن حرية التعبير التي طالما نادى بها اليسار تنتهي عند حدود رأيه هو.

يحدث أن يعبر صحفي مستقل عن رفضه لقرار إداري أو لسياسة تمييز بين الصحفيين، فيجد نفسه فجأة أمام عاصفة من الشتائم والتصنيفات، فيجد نفسه “فلولا”، “أمنجيا””، و“عدو النقابة”، تماما كما كان يفعل مكارثي حينما كان يرفع ورقة مزعومة ويقول أن “هؤلاء خونة في صفوفنا”، دون أن يقدم دليلا واحدا.

والمفارقة المؤلمة أن كثيرا من هؤلاء اليساريين عاشوا زمنا طويلا يشتكون من بطش الدولة وضيق المجال العام، ثم حين واتتهم الفرصة لتصدر المشهد النقابي أو الإعلامي، مارسوا نفس الإقصاء الذي طالما نددوا به. وكأن القمع، حين يمارسه خصومهم، هو جريمة؛ أما حين يمارسونه هم، فهو “ضرورة ثورية” أو “حماية للصف المعارض”.

لقد تحول جزء من المعارضة، للأسف، إلى نسخة مصغرة من سياسة مكارثي، ويركنون إلى نفس المنهج في تصنيف الناس، ونفس نزعة التخوين، ونفس الغرور الأخلاقي الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. 

وفي الوقت الذي كان يفترض أن تكون فيه المعارضة مدرسة للتعدد والاختلاف، صارت في كثير من الأحيان مرآةً مشوهة لخصومها.

ولا يمكن تجاهل أن بعض رموز هذا التيار اليساري يعيشون أزمة تراجع جماهيري واضحة، خاصة مع تآكل مصداقيتهم في الأوساط المهنية، فبدلا من مراجعة الذات أو الاعتراف بالأخطاء، لجأوا إلى أسهل الطرق وأكثرها بؤسا وهي تخوين المختلفين، فجميع من يرفض هيمنتهم، أو ينتقد أداءهم النقابي، أو الإعلامي، يتهم بأنه “مُخترق” أو “مُوجّه”. وهكذا تتكرر مكارثية جديدة، لا ضد “الشيوعيين” هذه المرة، بل ضد من لا يسبح بحمد “المعارضة اليسارية”.

إن أخطر ما في هذه المكارثية المعاصرة أنها تسلب المعارضة أخلاقها ومصداقيتها. فالمعارضة التي تخاف من النقد الداخلي وتحارب الأصوات المستقلة باسم “وحدة الصف”، تفقد حقها الأخلاقي في الدفاع عن حرية التعبير، وهنا يطرح السؤال نفسه كيف يمكن لمن يُكمم أفواه معارضيه أن يطالب بفتح المجال العام؟

المعارضة الحقيقية لا تقوم على تقديس الرموز، ولا على شيطنة المختلف، بل على الاعتراف بالتنوع والجدل والاختلاف. هي مساحة رحبة للنقاش لا لتبادل الشتائم، ومنبر للحوار لا لتوزيع صكوك الوطنية.

لقد ناضل الصحفيون والحقوقيون والكتاب عقودا طويلة من أجل أن يكون الخلاف السياسي أو الفكري حقا لا يجرم، واليوم نجد بعضهم يكرر نفس أدوات التخويف والإقصاء التي عانوا منها.

يبدو أن “مكارثية اليسار” في نسختها الراهنة ليست سوى نتيجة لعجز فكري ونفسي، أكثر منها موقفا سياسيا، إنها محاولة لتعويض فقدان التأثير عبر اللجوء إلى التخوين كسلاح أخير، يختصر النقاش ويفرض الصمت.

والمؤسف أن هذه المكارثية لا تضر بخصوم اليسار بقدر ما تضر به هو نفسه، إذ تفقده التعاطف والمصداقية وتحوله إلى تيار منغلق لا يختلف كثيرا عن الجماعات التي ينتقدها.

ربما آن الأوان لأن تراجع المعارضة اليسارية خطابها، وتدرك أن حرية التعبير لا تتجزأ، وأن من يضيق بصوت مخالف اليوم، سيسمع صوتا أقوى منه غدا يكممه بالطريقة نفسها، فالتاريخ لا يرحم من يكرر أخطاء خصومه، ومكارثي، الذي صار رمزًا للعار السياسي، قد يجد بعد سبعين عاما من يُقلده، ليس من خصومه، بل من الذين كانوا يوما يلعنونه باسم الحرية.

استطلاع راى

هل ترى أن دور الأحزاب السياسية في مصر يعكس طموحات الشارع ويسهم في حل المشكلات اليومية؟

نعم
لا

اسعار اليوم

الذهب عيار 21 5380 جنيهًا
سعر الدولار 47.51 جنيهًا
سعر الريال 12.67 جنيهًا
Slider Image