بركات لـ " مصر الآن ":عندما يخاف العالم يلمع"الذهب"و4 أساب وراء الارتفاع الجنوني
في تصريحات خاصة لموقع " مصر الآن" قال الدكتور وائل بركات أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة إنه وقبل أن نراقب أرقام الذهب وهي تتصدر الشاشات، وقبل أن ننشغل بسؤال: إلى أين يتجه السعر؟ هناك سؤال أعمق يستحق التوقف عنده: لماذا يعود الذهب دائمًا إلى الواجهة كلما اضطرب العالم؟ ولماذا يتكرر المشهد ذاته كلما اهتزت الثقة في الاقتصاد والسياسة معًا؟ للإجابة عن ذلك، لا يكفي النظر إلى الحاضر وحده، بل لا بد من رحلة قصيرة إلى التاريخ، حيث يخبرنا الذهب دائمًا بالحقيقة قبل أن تعترف بها الأسواق.
واضاف بركات إنه لفهم ما يجري اليوم في سوق الذهب، ولماذا يواصل تسجيل مستويات تاريخية غير مسبوقة، لا يكفي الاكتفاء بمتابعة الرسوم البيانية أو أخبار الأسعار اليومية، بل لا بد من العودة إلى التاريخ، وتحديدًا إلى أواخر سبعينيات القرن الماضي، حين عاش العالم واحدة من أكثر فتراته اضطرابًا، في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر. في تلك المرحلة، لم يصعد الذهب بدافع المضاربة أو الموضة الاستثمارية، بل لأن النظام الاقتصادي العالمي نفسه كان يفقد توازنه.
وأشار إلى أنه وفي أواخر السبعينيات، تلاقت مجموعة من العوامل العميقة التي صنعت واحدة من أعنف موجات صعود الذهب في التاريخ. كان العامل الأول هو التضخم الخارج عن السيطرة في الولايات المتحدة ومعظم دول العالم، حيث ارتفعت الأسعار بوتيرة سريعة، وتآكلت قيمة الدولار، بينما عجزت الأجور عن اللحاق بغلاء المعيشة. ساد شعور عام بأن المدخرات تفقد قيمتها يومًا بعد يوم، وأن العملة الورقية لم تعد ملاذًا آمنًا، وفي غياب أدوات تحوط فعالة، بدأ البحث عن أصل لا يمكن طباعته أو التلاعب به سياسيًا.
العامل الثاني تمثل في أزمة طاقة خانقة ضربت الاقتصاد العالمي بعد حظر النفط العربي، فقفزت أسعار الوقود، وتوقفت مصانع، وامتدت طوابير السيارات أمام محطات البنزين، وتعطلت سلاسل الإنتاج. الاقتصاد الأميركي دخل حالة شلل، واهتزت الثقة في قدرة النظام الاقتصادي على الاستمرار دون صدمات، لتتحول أزمة الطاقة إلى أزمة ثقة شاملة.
أما العامل الثالث فكان الفوضى الجيوسياسية، حيث جاءت الثورة الإيرانية لتقلب المشهد رأسًا على عقب. سقوط أحد أهم حلفاء واشنطن في المنطقة، واحتجاز الرهائن الأميركيين، أرسل رسالة واضحة للأسواق بأن العالم بات أقل قابلية للتوقع، وأن التوازنات السياسية التقليدية لم تعد صلبة كما كانت. في تلك اللحظة، بدت القيادة الأميركية في موقف ضعف غير مسبوق، ما عمّق القلق العالمي.
وجاء العامل الرابع ليكمل الصورة، وهو السياسة النقدية المرتبكة. قبل تولي بول فولكر رئاسة الاحتياطي الفيدرالي، كانت أسعار الفائدة أقل بكثير من معدلات التضخم، والدولار بلا حماية حقيقية. البنك المركزي الأميركي بدا مترددًا في اتخاذ قرارات حاسمة، فنتج عن ذلك فراغ نقدي قاتل، غذّى التضخم وضرب الثقة في أدوات السياسة الاقتصادية التقليدية.
وأوضح إنه و وسط هذا المشهد المضطرب، لم يجد المستثمرون ملاذًا سوى الذهب. أصل لا تتحكم فيه حكومة، ولا يطبعه بنك مركزي، ولا يخضع لتقلبات السياسة. فكانت النتيجة قفزة تاريخية في الأسعار، إذ ارتفع الذهب من نحو مئة دولار للأونصة إلى أكثر من ثمانمئة دولار بحلول عام 1980. لم تكن تلك القفزة مجرد مكسب سعري، بل كانت تعبيرًا صريحًا عن فقدان الثقة في النظام المالي العالمي بأكمله.
وعندما تغيّر المسار لاحقًا، وتولى بول فولكر قيادة الاحتياطي الفيدرالي، ورفعت أسعار الفائدة بقوة غير مسبوقة، وتمت مواجهة التضخم بلا تردد، استعادت السياسة النقدية مصداقيتها، وتراجع الخوف، ومعه تراجع الذهب. لم يسقط الذهب لأنه فقد قيمته، بل لأن الثقة عادت مؤقتًا إلى النظام.
وقال اليوم، ونحن نشهد صعود الذهب إلى مستويات تاريخية جديدة، تتكرر بعض ملامح ذلك المشهد القديم، وإن اختلفت التفاصيل. عالميًا، يعيش الاقتصاد حالة توتر بين تضخم لم يُحسم بالكامل، وديون قياسية، وتوترات جيوسياسية ممتدة. إقليميًا، تلجأ كثير من الاقتصادات الناشئة والشرق الأوسط إلى الذهب كأداة تحوط في مواجهة تقلبات العملات وأسعار الفائدة. ومحليًا، في مصر وغيرها، لم يعد الذهب مجرد أداة للزينة أو الادخار التقليدي، بل وسيلة للحفاظ على القيمة في بيئة اقتصادية متغيرة وحساسة.
الخلاصة أن الذهب لا يصعد لأنه محبوب، ولا لأنه أصل عصري، بل لأنه يزدهر عندما يخاف العالم، ويرتفع عندما تهتز الثقة، ويبلغ ذروته عندما تفشل الأدوات التقليدية في طمأنة الناس. ولهذا، فإن قراءة التاريخ ليست ترفًا فكريًا، بل مفتاحًا أساسيًا لفهم ما يحدث اليوم في سوق الذهب، ولماذا لا يمكن النظر إلى صعوده الحالي بأعتباره ظاهرة عابرة.


-2.jpg)




