الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 | 09:36 م

حسن عزام يكتب :"كولومبوس "البطل المزيف الذي يستخدمه ترامب وميلوني لإحياء أوهام الغرب


في أكتوبر، وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إعلاناً رئاسياً يصف فيه كريستوفر كولومبوس بأنه "عملاق الحضارة الغربية" و"عملاق عصر الاستكشاف"، مشيداً بـ"التراث الاستثنائي من الإيمان والشجاعة والمثابرة والفضيلة" الذي تركه، مؤكداً أن رحلته "حملت آلاف السنين من الحكمة والفلسفة والعقل والثقافة عبر المحيط الأطلسي إلى الأمريكتين". وفي الوقت نفسه، رددت جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية، على منصة X عبارات مماثلة، معتبرة أن رحلة كولومبوس "وضعت أسس الرابطة التي لا تنفصم بين أوروبا وأمريكا، والتي تمثل جوهر ما يحدد الغرب".
هذه الجمل المبجلة لا تأتي من كتاب تاريخ استعماري مغبر من أوائل القرن العشرين، ولا من قلم أيديولوجي في إسبانيا فرانكو في الأربعينيات، بل من قلب السلطة السياسية المعاصرة في الغرب. هذا التزامن في الخطاب ليس مصادفة عابرة، بل يكشف عن استراتيجية أيديولوجية متعمدة تسعى لإعادة إحياء السرديات الاستعمارية القديمة في ثوب جديد، مستغلة شخصية تاريخية مثيرة للجدل لتعزيز رؤية سياسية قومية ومتفوقة.
على مدى قرون، تم تصوير كولومبوس كبطل حضاري، رمز للتقدم والشجاعة الأوروبية. هذه الصورة المثالية تجاهلت عمداً الجوانب المظلمة من رحلاته وإرثه. فقد كان وصوله إلى الأمريكتين بداية لواحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في التاريخ، حيث أدى ذلك إلى إبادة السكان الأصليين، وتدمير حضارات بأكملها، وبداية تجارة العبيد عبر الأطلسي. الوثائق التاريخية تكشف أن كولومبوس وطاقمه مارسوا العنف الممنهج ضد شعوب الكاريبي الأصلية، وتشمل جرائمه الموثقة القتل الجماعي، والاستعباد، والتعذيب، والاغتصاب. في هيسبانيولا، المعروفة اليوم بهايتي، انخفض عدد السكان الأصليين من مئات الآلاف إلى بضعة آلاف خلال عقود قليلة بسبب العنف والأمراض والاستعباد.
اختيار كولومبوس ليس عشوائياً، فهو يجسد فكرة "المهمة الحضارية الأوروبية"، ذلك المفهوم الذي استُخدم لتبرير الاستعمار على أساس أن الأوروبيين يحملون رسالة نشر "الحضارة" و"التقدم" للشعوب "المتخلفة". هذه الفكرة تحمل في جوهرها نظرة تفوقية ترى الثقافات غير الأوروبية كأدنى وتحتاج للـ"إنقاذ". بالنسبة لترامب وميلوني، يمثل كولومبوس تأكيداً للهوية الغربية في عصر يشهد نقاشات حول التعددية الثقافية والهجرة، حيث يُستخدم كرمز لـ"نقاء" الحضارة الغربية وتفوقها المفترض.
كما أن الدفاع عن كولومبوس يصبح معركة رمزية ضد ما يعتبره القوميون اليمينيون تهديداً لـ"القيم الغربية"، خاصة في ظل تصاعد الدعوات لإزالة تماثيله وإعادة تقييم إرثه في السنوات الأخيرة. الخطاب التفوقي حول كولومبوس يخدم أيضاً أجندات سياسية معاصرة تتعلق بالهجرة، والسياسة الخارجية، والهوية القومية، حيث يوفر سردية تاريخية تبرر سياسات الحاضر.
كلا الزعيمين ينتميان إلى تيار اليمين القومي الذي يشهد صعوداً في الغرب، وخطابهما يشترك في عدة عناصر أساسية. فهما يؤكدان على القومية الثقافية من خلال التشديد على "الجذور المسيحية" للغرب ورفض التعددية الثقافية، كما يتبنيان خطاباً معادياً للهجرة يربط الهوية الوطنية بالعرق والدين، ويصور المهاجرين كتهديد للهوية. إضافة إلى ذلك، يعكس خطابهما نوستالجيا إمبريالية، أي الحنين إلى ماضٍ "مجيد" حين كانت الدول الغربية تهيمن على العالم بلا منازع.
استخدام شخصية مثل كولومبوس ليس مجرد تاريخ، بل أداة سياسية ترسل رسائل متعددة. للقاعدة الشعبية، تقول "نحن نفخر بتراثنا ولن نعتذر عنه"، وللأقليات والمهاجرين تقول "هذه حضارتنا، وأنتم ضيوف فيها"، أما للمعارضين فتقول "تحدي سردياتنا هو هجوم على هويتنا". هذا الخطاب الرمزي يخدم وظيفة سياسية واضحة في تعزيز رؤية الزعيمين وحشد مؤيديهم حول هوية جماعية محددة ومغلقة.
الخطر الأكبر في هذا الخطاب هو أنه يسعى لإعادة تطبيع النظرة الاستعمارية، فحين يُصوَّر الاستعمار كـ"رسالة حضارية"، يصبح من الأسهل تبرير السياسات التوسعية والتدخلات الخارجية والتمييز ضد الأقليات في الداخل. كما أن هذا الخطاب يمحو تجربة الملايين من الضحايا، فالشعوب الأصلية التي أُبيدت، والعبيد الأفارقة الذين اقتيدوا بالسلاسل، والحضارات التي دُمرت، كل هذا يُختزل أو يُتجاهل في سبيل الاحتفاء بـ"البطل" الذي يمثل الحضارة الغربية.
الخطاب التفوقي حول الماضي له تداعيات مباشرة على الحاضر، فهو يغذي العنصرية، ويبرر عدم المساواة، ويعيق جهود المصالحة التاريخية. إنه يخلق بيئة سياسية واجتماعية تسمح بممارسات تمييزية تحت شعارات "الدفاع عن الهوية" و"حماية الحضارة"، وهي شعارات برّاقة تخفي في طياتها أجندة إقصائية وعنصرية.
منذ عقود، تطالب حركات السكان الأصليين في الأمريكتين بإعادة كتابة السردية الرسمية، وفي العديد من الولايات الأمريكية، تم استبدال "يوم كولومبوس" بـ"يوم الشعوب الأصلية"، وهو تحول يعكس وعياً متزايداً بضرورة مواجهة الحقائق التاريخية. المؤرخون المعاصرون أعادوا دراسة إرث كولومبوس بعيون نقدية، كاشفين عن الأساطير والمبالغات، وقدموا أعمالاً مثل تلك للمؤرخ هوارد زين في "تاريخ الشعب للولايات المتحدة"، والتي قدمت سرديات بديلة تركز على تجربة المهمشين والمقهورين.
النقاشات حول إزالة التماثيل وتغيير أسماء الشوارع ليست مجرد "حروب ثقافية" سطحية، بل تعكس صراعاً أعمق حول كيفية تذكر الماضي والدروس التي نستخلصها منه للمستقبل. إنها تعكس رغبة في بناء مجتمعات أكثر عدلاً وإنصافاً، مجتمعات لا تنكر ماضيها بل تواجهه بشجاعة وصدق.
اختيار ترامب وميلوني لكريستوفر كولومبوس كرمز ليس مجرد تفضيل شخصي أو حنين تاريخي بريء، بل هو جزء من استراتيجية أيديولوجية واضحة تسعى لإعادة فرض سردية تفوقية غربية في عالم متغير. هذا الخطاب يخدم أغراضاً سياسية محددة تشمل تعزيز الهوية القومية الإقصائية، ومقاومة التعددية الثقافية، وتبرير سياسات تمييزية تحت غطاء "الدفاع عن الحضارة الغربية".
التصدي لهذا الخطاب لا يعني "محو التاريخ" أو "إلغاء" شخصيات تاريخية، بل يعني المطالبة بسردية أكثر شمولية وأمانة، سردية تعترف بالإنجازات دون تجميل الجرائم، وتحتفي بالتنوع الإنساني دون فرض تراتبية بين الحضارات. في النهاية، الصراع حول كولومبوس هو صراع حول نوع العالم الذي نريد أن نعيش فيه، عالم يتعلم من أخطاء الماضي ويسعى للعدالة، أم عالم يعيد إنتاج خيالات التفوق والهيمنة تحت شعارات وطنية براقة. إن اختيار كولومبوس كرمز يكشف بوضوح عن توجهات سياسية تسعى لإعادة إنتاج ماضٍ مليء بالظلم والقهر، وهو ما يتطلب يقظة مستمرة ومقاومة فكرية وأخلاقية من كل من يؤمن بالعدالة والمساواة الإنسانية.

استطلاع راى

هل تؤيد تقنين حضور المصورين للجنازات؟

نعم
لا

اسعار اليوم

الذهب عيار 21 5780 جنيهًا
سعر الدولار 47.59 جنيهًا
سعر الريال 12.69 جنيهًا
Slider Image