عزام لـ " مصر الآن ":ترامب حول ليلة الميلاد إلى "ساحة للحرب "علي نيجيريا
قال الكاتب الصحفي والخبير في الشؤون السياسية حسن عزام لموقع " مصر الآن "إنه وفي ليلة كان من المفترض أن تكون مخصصة للاحتفال والسلام، أختار دونالد ترامب أن يجعلها مسرحاً لعرض القوة والحضور الإعلامي ليلة عيد الميلاد، تلك اللحظة التي تجتمع فيها العائلات حول موائدها وتتردد في أرجائها أصداء الترانيم والأمنيات، تحولت إلى منصة سياسية عندما أصدر الرئيس الأمريكي أوامره بشن ضربات عسكرية على معسكرات يُزعم أنها تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في شمال غرب نيجيريا.
وأضا عزام أنه لم يكن إختيار التوقيت عشوائياً، فرجل مثل ترامب، الذي بنى إمبراطوريته على فهم عميق لآليات الإعلام وطرق صناعة العناوين، يدرك تماماً أن كل قرار يتخذه يحمل في طياته رسالة مزدوجة: واحدة للجمهور الداخلي وأخرى للعالم الخارجي.
وأشار إلى أن العلاقة بين ترامب والإعلام تشبه رقصة معقدة بين خصمين يعرف كل منهما خطوات الآخر جيداً. يهاجمهم علناً ويصفهم بأبشع النعوت، لكنه في الوقت ذاته يتغذى على اهتمامهم ويستثمر كل لحظة تغطية إعلامية لصالحه. يفهم رموزهم، يعرف متى يثير الجدل ومتى يلقي بتصريح صادم يضمن له البقاء في دائرة الضوء لأيام. هذا الفهم العميق لديناميكيات الإعلام الحديث، خاصة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي حيث تنتشر الأخبار بسرعة النار في الهشيم، جعل منه لاعباً ماهراً في لعبة السياسة المعاصرة. فوكس نيوز وتويتر ليسا مجرد منصات يستخدمها، بل هما جزء أساسي من استراتيجيته في التواصل المباشر مع قاعدته الشعبية، متجاوزاً القنوات التقليدية التي قد تفلتر رسالته أو تنتقدها.
وقال أن هذا الاندفاع في إتخاذ القرارات، وهذه السرعة في الرد والتفاعل، تحمل معها مخاطر جمة. فالقرار العسكري ليس تغريدة يمكن حذفها لاحقاً، والضربة الجوية ليست عنواناً صحفياً يمكن تصحيحه في اليوم التالي. عندما يتعلق الأمر بحياة بشر وسيادة دول وإستقرار مناطق بأكملها، فإن الاندفاع يمكن أن يتحول إلى تهور، والرغبة في الظهور بمظهر القوي قد تؤدي إلى تداعيات لا يمكن التنبؤ بها. البعض يرى في توقيت هذه العملية دليلاً على هذه العقلية الاستعراضية، حيث يختار الرئيس لحظة يكون فيها العالم مشغولاً بالاحتفالات ليفرض حضوره ويذكّر الجميع بأنه لا يزال يمسك بزمام الأمور.
التفسيرات المحيطة بهذا القرار تتعدد وتتشعب، كل منها يعكس نظرة مختلفة للسياسة الأمريكية والشخصية الترامبية. هناك من يرى أن التوقيت ليس مصادفة بل ضرورة، أن المعلومات الاستخباراتية ربما أشارت إلى تهديد وشيك يستدعي تحركاً فورياً. وفقاً لهذا التفسير، فإن أي رئيس مسؤول كان سيتخذ القرار نفسه بغض النظر عن الظروف الإعلامية أو السياسية المحيطة. لكن هذا التبرير يصطدم بجدار من الشكوك، خاصة في ظل سجل ترامب الحافل بالقرارات التي تبدو محسوبة أكثر لتأثيرها الإعلامي من فعاليتها الاستراتيجية.
وأوضح أن التفسير الأكثر قتامة، والذي يتبناه كثيرون من المراقبين والمحللين، يربط هذه العملية العسكرية بالأزمات الداخلية التي تحاصر الرئيس. فضيحة إبستين، بكل تفاصيلها المثيرة للجدل وارتباطاتها المزعومة بشخصيات نافذة في عالم السياسة والمال، شكلت صداعاً مستمراً للإدارة الأمريكية. عندما تتراجع نسب الشعبية وتتصاعد الانتقادات وتبدأ التحقيقات في التضييق على الدائرة الرئاسية، يصبح الإغراء كبيراً لتحويل الأنظار نحو قضية خارجية، لإظهار القوة والحسم في مواجهة عدو واضح ومحدد. الحرب على الإرهاب، بكل ما تحمله من شحنة عاطفية ووطنية، توفر الغطاء المثالي لسياسي يبحث عن استعادة بريقه وتوحيد صفوف مؤيديه خلف راية الأمن القومي.
هذه الاستراتيجية ليست جديدة في تاريخ السياسة الأمريكية أو العالمية. مراراً وتكراراً، لجأ قادة محاصرون بفضائح داخلية أو تراجع شعبي إلى المغامرات الخارجية لإعادة رسم صورتهم أمام الرأي العام. التاريخ مليء بأمثلة على حروب صغيرة وعمليات عسكرية محدودة شُنت في توقيتات مريبة، حيث تتقاطع الحاجة السياسية الداخلية مع الفرص المتاحة في الساحة الدولية. والشعب، المنشغل بمشاهدة الصور الدرامية للعمليات العسكرية والاستماع إلى الخطابات الحماسية عن الدفاع عن القيم والمصالح الوطنية، قد ينسى أو يتجاهل الأسئلة المحرجة التي كانت تُطرح بالأمس.
لكن هناك بعداً آخر أكثر عمقاً واستراتيجية في هذا المشهد. المتشائمون، أو ربما الواقعيون، يرون في هذه العملية وسيلة لتوسيع النفوذ الأمريكي في منطقة حيوية من العالم. نيجيريا، بثرواتها النفطية الهائلة وموقعها الاستراتيجي في غرب أفريقيا وتعداد سكانها الضخم، تمثل قطعة مهمة على رقعة الشطرنج الجيوسياسية. التدخل العسكري، حتى لو كان محدوداً ومغلفاً بغلاف مكافحة الإرهاب، يفتح الباب أمام حضور عسكري أمريكي أوسع، وربما قواعد دائمة، واتفاقيات تعاون أمني تعطي واشنطن نفوذاً على القرارات النيجيرية. في عالم تتصارع فيه القوى العظمى على مناطق النفوذ، خاصة في أفريقيا حيث تتوسع الصين بقوة اقتصادياً وتحاول روسيا استعادة حضورها، فإن أي فرصة لتثبيت الأقدام الأمريكية تُعتبر مكسباً استراتيجياً.
هذا التفسير الأخير يكشف عن البعد الإمبراطوري للسياسة الأمريكية، تلك الرغبة المستمرة في الحفاظ على الهيمنة العالمية من خلال شبكة معقدة من القواعد العسكرية والتحالفات والتدخلات. الإرهاب، في هذا السياق، يصبح ذريعة مريحة أكثر من كونه السبب الحقيقي. فمن يجرؤ على الاعتراض على عملية تستهدف تنظيماً إرهابياً؟ من يمكنه التشكيك في نوايا دولة تقول إنها تحمي الأبرياء من خطر الإرهابيين؟ هذا الخطاب الأخلاقي يوفر غطاءً مثالياً لمصالح أقل نبلاً وأكثر واقعية، مصالح تتعلق بالنفط والموارد والنفوذ والسيطرة.
ربما تكون الحقيقة خليطاً من كل هذه التفسيرات. فالسياسة نادراً ما تكون أحادية البعد، والقرارات الكبرى نادراً ما تنبع من دافع واحد بسيط. ترامب الاستعراضي الذي يبحث عن العناوين الكبرى، والسياسي المحاصر الذي يحاول صرف الانتباه عن فضائحه، والاستراتيجي الذي يسعى لتوسيع النفوذ الأمريكي، كلها وجوه لشخصية واحدة معقدة ولإدارة تعمل على مستويات متعددة. ما يبقى مؤكداً هو أن قراراً كهذا، يُتخذ في ليلة عيد الميلاد ويستهدف دولة أفريقية بعيدة، يحمل معه أسئلة عميقة عن طبيعة القوة وكيفية استخدامها، عن الأخلاق في السياسة الدولية، وعن الثمن الذي يدفعه الناس العاديون عندما تتحول حياتهم إلى مجرد أدوات في لعبة الكبار.



-3.jpg)
