الثلاثاء 29 نوفمبر 2022 | 12:31 م

مقابر رموزنا ومفكرينا.. وموقف نجيب محفوظ من الهدم


مع تجدد مثل هذه الأزمات التي تنتج عن شائعات بهدم مقابر بعض رموزنا الفكرية والأدبية والثقافية عموما أظن أنه قد حان الوقت لحل جذري ومشروع جديد للتأريخ والتوثيق والذاكرة القومية والجماعية للأمة المصرية. ففي هذه الأيام تجددت الأزمة نفسها وعبر بعض المثقفين عن انزعاجهم من نوايا أو إشاعات عن هدم مقبرة الأديب الكبير يحيى حقي، وقبلها كانت الأزمة نفسها أشد أوسع وأكبر حول مقبرة عميد الأدب العربي الفذ الدكتور طه حسين، وقد أثيرت المشكلة ذاتها حول مقابر آخرين من أدباءنا ورموزنا الفكرية والثقافية.
والحقيقة أن هذه الأزمة كاشفة لمشكلة قديمة كان يجب علينا أن نتنبه لها وهي أن تاريخنا الثقافي ببعده المادي يحتاج إلى رتق ولم للشمل وتوثيق وطرح صورة تأريخية مغايرة تجمع بين المادي والمعنوي، ولهذا يمكن أن يكون إنشاء مقبرة تاريخية جماعية فخمة تليق برموزنا هو الحل الأفضل والضرورة الملحة في الوقت نفسه. ولو تخيلنا أن لدينا مشروعا كهذا يمكن أن نطلق عليه مثلا (الشاهد الثقافي والفكري) وتجمع فيه رفات العظماء من أدباءنا ومثقفينا ومفكرينا الكبار مثل طه حسين ونجيب محفوظ ويحيى حقي والعقاد ويوسف إدريس وغيرهم الكثير من رموز الفكر والثقافة مما يمكن أن نحصرهم ولهم أثر حقيقي في تاريخنا الأدبي والفكري والثقافي، وذلك بالطبع بعد اتخاذ كافة الإجراءات المناسبة لهذا الأمر من استئذان وموافقة أهل كل كاتب وورثته، وكذلك التأكد من عدم أثرية أو تاريخية مبنى أي مقبرة لهؤلاء الرموز أو قدمها بما يدخلها في عداد الأماكن التاريخية، وهو أمر له معايير متفق عليها من حيث قدم المقبرة ونوعية البناء والمستخدم فيها من الأحجار.
أقول لو تخيلنا أن لدينا هذا الصرح وهذه المدينة التي تضم رفات رموزنا الراحلين بالجسد الأحياء بالفكر والإبداع ومازالوا بيننا بقوة بأثرهم مثل طه حسين ويحيى حقي ونجيب محفوظ، وكانت هذه المقبرة التاريخية أو هذه المدينة بالمواصفات اللائقة وفيها من الفخامة والأبهة ما يليق بمجدهم الأدبي وأدوارهم العظيمة وعطائهم التاريخي، وكانت هناك لوحات رخامية فخمة تعرف بهؤلاء الأدباء والمفكرين وأبرز كتبهم أو أبرز أفكارهم ونظمت إليها رحلات مدرسية لكان هذا المشروع تاريخا حيا وجماعيا وصورة غير نمطية للتوثيق وللعلم والمعرفة، فضلا عن ما يمكن أن يكون فيها من رمزيات أخرى مثل أن تكون الدولة مقدرة للفكر وتحتفي به وتبرزه وتؤرخ لنفسي بكافة وسائل التأريخ والحفظ، فهذا التجمع لمقابر رموزنا يمكن أن يكون شكلا مختلفا وجديدا من التأريخ والتدوين ويمكن أن تكون الفكرة مفتوحة على إضافات عديدة بأن تكون مقبرة ومتحفا مصغرا وبخاصة إذا أتيح لها المكان المناسب في القاهرة التاريخية وفي إطار التنظيم العمراني الجديد والتغييرات الكبيرة والموسعة التي حدثت في السنوات الأخيرة في القاهرة ومحيطها.
التاريخ يصبح تاريخا مع عملية التجميع والتدوين في سجل واحد، ومقبرة تاريخية جماعية لرموزنا وفق هذا الشكل والتصور هي شكل من كتابة التاريخ وتنظيمه وجمعه للأجيال القادمة، وبدلا من أن يتوه الإنسان المصري في البحث عن مقبرة أديب أو كاتب أو مفكر ويجد صعوبة في الاستدلال عليها فإن جمعهم في مكان واحد يؤنسهم ويؤنسنا ويؤنس الأجيال القادمة ويكون لهم شاهدا على الماضي وشاهدا على أدوارهم وعطائهم، وتأكيد على احتفائنا بكل عطاء وبصاحب كل منجز.
إذا لو كانت الفكرة في ذاتها وبشكل متجرد جيدة ومطلوبة ويمكن أن تصل إلى درجة الضرورة الملحة والأمانة التي يجب أن تؤدى في حق هؤلاء وفي حق الأجيال التي من حقها أن تعرف الماضي وتعرف الرموز، إذن فما المانع من النقل أو هدم القديم وبناء الجديد؟ وما هو الرأي الذي كان سيميل إليه هؤلاء الرموز لو كانوا بيننا؟
ما رأي نجيب محفوظ مثلا في هدم المقابر ونقلها؟ وهل أبدى الرجل رأيه في مثل هذه القضايا؟
في الحقيقة لم يكن أي واحد من هؤلاء بعيدا عن إبداء الرأي في التجديد والبناء والاحتفاء بالتاريخ؟ والطريف أننا نجد رأيا واضحا وصريحا لنجيب محفوظ في مسألة نقل المقابر بشكل محدد. ولن أقول لك إنه بشكل عام كان يحتفي بالتجديد ويناصر الحداثة والتطور بشكل دائم، ولكن في مسألة نقل المقابر على نحو خاص وشديد التحديد ودون مواربة كان عملاق الرواية العربية مناصرا للهدم ونقل المقابر، بصرف النظر عن طبيعتها أو طبيعة من يسكنون فيها.
في قصة حديقة الورد لنجيب محفوظ وهي قصة قصيرة في غاية الثراء والأهمية يطرح محفوظ هذه القضية. أو بالأحرى استخدم نجيب محفوظ هدم المقابر وسيلة أو وسيطا لمقاربة صراع التقليديين والمجددين، صراع الحداثة والجمود، صراع التطور والعلم ضد الخرافات والغيبي والجمود والتقديس الأعمى.
هذه القصة التي درستها أكثر من مرة لطلاب الليسانس في كلية دار العلوم تناقش بشكل واضح مسألة نقل المقابر وهدمها. والطريف أنه حول القضية إلى عالم مشوق وطريف ويموج بالحركة والصراع بأطرافه المختلفة وبواعثه ومحركاته وأنا أدعو كثيرين من المثقفين الذين لهم صلة بإبداع محفوظ أن يعيدوا قراءة هذه القصة بتأمل ويحاولوا استشفاف موقف نجيب محفوظ وأي فريق كان يناصر ولأي تيار انحاز.
فحديقة الورد نفسها التي يتحدث عنها الكاتب في القصة كانت قد أنشئت بالفعل على أنقاض مقابر تم هدمها ونقلها لأنها كانت وسط الحي السكني، وهذا ما تبدأ به القصة أن الماضي الذي حدث فيه الصراع على مسألة هدم المقابر يحكيه ويخبر به شيخ عجوز من أهل الحي كان شاهدا على هذه الأحداث في الماضي ويقصه ويحيكها للراوي/الذي يمكن أن يكون معادلا للكاتب نفسه أو منشئ الخطاب القصصي وهم جلوس في حديقة الورد بالفعل بعد أن انتصر الزمن بالفعل وبقوته الدافعة هزم الجمود وانتصر عليه رغما عنه. فنجيب محفوظ في القصة التي جعل فيها واقعة قتل مشوقة إنما ينتصر للمستقبل وينتصر للحداثة والتجديد والبناء ولعدم الوقوع تحت سطوة الماضي وقراءته قراءة حرفية. وللحديث بقية لأن مشروعا كهذا يحتاج إلى إلحاح وقصة كتلك لصاحب نوبل يمكن أن يقال عنها الكثير وتنبهنا إلى الحاجة الشديدة لإعادة قراءة تراثنا وإبداع محفوظ بشكل خاص كما نحتاج لأن نتجاوز الشكلية التي أصبحت مهيمنة على أغلبيتنا