السبت 3 ديسمبر 2022 | 04:30 م

الثقافة أمن قومي ونشر الكتاب هو مستقبلنا


ليست أفكارا جديدة على الإطلاق القناعة بأن الثقافة وأدوات تشكيل الوعي من أساسيات الأمن القومي لأي أمة، فمنذ عقود بعيدة استقرت الرؤية الفكرية والنقدية في العالم على أن الأدوات الثقافية الفاعلة في تشكيل الوعي وصياغة العقل الجمعي من الأمور التي تمثل أعلى درجات الخطوة في حياة الأمم ومستقبلها، وتزايد وتأكد ذلك التصور مع فكر ونقد ما بعد الحداثة منذ تصورات ميشيل فوكو عن الخطاب والإمبريالية والثقافة وسلطة المعرفة وغيرها من الأفكار المؤسسة، واستمر التأكيد مع الانفجار المعلوماتي والتضخم الهائل في دور وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل التكنولوجيا بشكل عام، إذ ظهرت وتشكلت مظاهر عديدة للهيمنة عن بعد وعوامل التأثير والتشكيل وقيادة الرأي وصياغة العقل وقيادة الجماهير سيكولوجيا أو محاولات العمل على ترسيخ حالات معينة لدى قطاع من المجتمع.
الثقافة ليست هي فقط الخطاب الإعلامي، فهناك أدوات أخرى كثيرة لصناعة الثقافة وأدوات أخرى لإنتاجها مثل الإبداع الأدبي والفكري والنشر بشكل عام في الكتب والمجلات والدوريات.
إن منظومة النشر تكاد تكون هي الأخطر لأنها ممتدة الأثر فالأثر القرائي يتميز بأنه ممتد في فاعليته أو دوره، فإذا كان الإعلام التلفزيوني أو المسموع في الراديو والمدونات الصوتية سريع في تأثيره فإنه في الوقت نفسه لا يشتغل على البنية العميقة من البناء العقلي أو النفسي، بل يعمل في المساحة الآنية السطحية سريعة التأثير وسريعة رد الفعل، أما الكتاب والقراءة فإنهما يشتغلان على البنية العميقة وعلى تشكيل الضمير الجمعي وتشكيل السلوك العام للأمة في مستقبلها، وصورة الإنسان المصري وسلوكه في المستقبل القريب أو البعيد بالأساس مرهونة بما يقرأ الإنسان المصري الآن وما يتعلم أو يعرض عليه من كتب وثقافة.
وهناك تفرقة أخرى بين الكتب الاختيارية التي يقرأها المتلقي مختارا أو بإرادته والكتب الأخرى التي يقرأها بحكم الدراسة أو العمل أو التخصص، فالخطر الأكبر والدور الأبرز ربما يتركز فيما يقرأ المواطنون اختياريا أي في الكتب الثقافية الحرة التي تنشرها دور النشر، ويقع أغلبية هذه الكتب في المؤلفات الأدبية بشكل خاص وبخاصة الإبداع الروائي والقصصي، ولو تخيلنا وافترضنا جدلا أن هذه المساحة القرائية الخطيرة والمهمة مثلا يقوم عليها فريق يرسخ لرسالة رجعية أو يكرس لأفكار وقيم هدامة أو مخربة تخلخل الانتماء أو تبث مشاعر الكراهية والغضب لدى الشباب والقراء فإن المستقبل في هذه الحالة سيكون قلقا وعلى حافة الخطر.
لا يمكن بأي حال من الأحوال ترك الساحة في النشر نهبا لناشرين غير معروفة غاياتهم وأهدافهم أو غير محددة بالقيمة الأدبية والإبداعية أو القيم الإنسانية والقيم الوطنية، وأن تترك هذه الغايات تدور في فلك مسألة الربح أو البيع أو الدوافع الاقتصادية فقط، فهذا أمر مدمر، ومثلما هو خطر جدا أن يترك الإعلام لجهات خارجية أو جهات مغرضة أو مشكوك في نواياها فالأمر ذاته ينطبق على النشر الذي يشكل ويصوغ مستقبلنا ويرسم ملامحه من الآن ونحن لا ندري، والتركيز على الإعلام مهم وعاجل لكن لا يمكن الاكتفاء به ولا بد من تصور شامل لكل أدوات الثقافة وعناصرها الفاعلة أو ذات الدور الكبير في صياغة العقل الجمعي، ولن أن نتذكر دائما أن الإعلام يحدد الغد القريب أو يحدد ملامح اليوم والغد القريب جدا، فأثر المعلومة أو الخطاب الإعلامي يمتد لأسبوع أو شهر ، أما أثر القراءة فإنما يمتد لأجيال وسنين ولهذا فالنشر بكل ضوابطه وأدواته والفاعلين فيه أو المشتغلين عليه هو في رأيي مما يرتبط بأمننا القومي وبملامح مستقبلنا.
نحتاج إلى خطط نشر تعمل على تكريس القيم الإنسانية والقيم الحضارية وقيم التنوير والتسامح وقيم العلم والعقلانية وترسيخ الانتماء وحب الحياة وحب العمل، نحتاج إلى بصيرة نافذة فيما يرتبط بكل ما يعرض على القارئ المصري أو يتاح له من الكتب، والأمر لا يعني الرقابة والحصار بقدر ما يعني ضرورة الدعم لكل ما هو جيد وتعزيز الإنتاج الفكري والأدبي والعلمي الإيجابي وعمل إزاحة ثقافية فيتم تمكين العملة الجيدة من طرد العملة السيئة.