أزمة العملات الرقمية والتعاملات النقودية
خلال الآونة الأخيرة تداولت وسائل الإعلام المختلفة خبرا مفاده أن الأجهزة الأمنية قد نجحت فى القبض على عصابة قامت بسرقة مبلغ 2.350 مليون جنيه من تاجر ذهب، كان قد وضعها داخل كرتونة فى عربة ميكروباص لتوصيلها من المنيا إلى تاجر آخر شريك له فى القاهرة. ومن المفاجآت أنها لم تكن المرة الأولى التى يقوم بها بهذه العملية، إذ أنه كان معتادا على ذلك حتى علم جاره بالمسألة وقام بعملية السطو. وهو ما أعاد إلى الأذهان التساؤل مرة أخرى عن السر فى استمرار البعض فى تفضيل التعامل النقدي، بمثل هذه المبالغ، بدلا من الجهاز المصرفي، وفى ظل الحديث المتكرر عن الشمول المالي؟ خاصة أن هذه المسألة كان قد سبقها العديد من قضايا توظيف الأموال فى أماكن عديدة بالجمهورية.
وقد تزامنت هذه الأحداث مع تطورات عديدة فى أسواق العملات الرقمية المشفرة، بعد أن تلقت ضربة قوية، نتيجة لتعثر واحدة من أكبر المنصات العاملة فى هذا المجال (FTX) والتى خسرت خلال الإسبوع الماضى نحو 17 مليار دولار، مما أدى إلى انخفاض كبير فى العملات المشفرة خاصة البيتكوين التى خسرت ما يقرب من ربع قيمتها. وهبطت القيمة السوقية لهذه العملات من 3.3 تريليون دولار فى نوفمبر 2021 إلى نحو 850 مليارا فى منتصف نوفمبر 2022، الأمر الذى أصاب الأسواق بالفزع والهلع وينذر بإنهيار هذه السوق، بعد أن فشلت فى القيام بدورها كنقود وكوسيط للتبادل أو مستودع للقيمة وكذلك كوحدة حساب. وهو ما دفع البعض لتشبيهها بالأزمة المالية العالمية التى حدثت عام 2008. وما يهمنا فى هذا الصدد أن جزءا لا بأس به من المتعاملين هم من المنطقة العربية خاصة الخليج العربى فضلا عن مصر، رغم عدم قانونية هذه المعاملات. هنا يثار الجدل حول الصراع بين الشمول المالى والعملات الإفتراضية خاصة بعد أن برزت هذه العملات فى أسواق المال العالمية. واعترفت بها دولة السلفادور، وفقا للقانون الصادر فى يونيو 2021، لتصبح أول دولة فى العالم تشرع عملة البيتكوين كعملة رسمية حكومية، وذلك بعد 12 عاما من وجودها بالأسواق الدولية.وهنا يجب التفرقة بين العملات الرقمية، التى تقسم إلى ثلاثة أشكال رئيسية هى العملات الإفتراضية ، والعملات الإلكترونية، والعملات الرقمية القانونية التى تصدرها البنوك المركزية أو مؤسسات النقد. ويعرف البنك المركزى المصرى العملات الإفتراضية أو المشفرة على انها عملات مخزنة إلكترونيا غير مقومة بأى من العملات الصادرة عن سلطات النقد الرسمية ويتم تداولها عبر شبكة الإنترنت. وأظهرت جائحة كورونا والتى فرضت الإغلاق الكبير على الإقتصاد العالمى ككل والتباعد الإجتماعى للأفراد، مدى أهمية المعاملات الرقمية والتى اصبحت شريان الحياة لمعظم المجتمعات والأفراد. بل وتمكنت الحكومات من استخدامها فى الوصول إلى بعض الأسر والعمالة غير المنتظمة، وأوضحت أن هناك إمكانية للاستغناء عن العملات الورقية والتى قد تكون سببا فى نقل الفيروس من شخص لآخر. كما تمكنت البنوك من تقديم الخدمات المصرفية إلكترونيا دون الوجود الشخصى والتزاحم مما حد من إنتشار الفيروس، وغيرها من المتغيرات التى أكدت بما لا يدع مجالا للشك أهمية تعزيز الشمول المالى ليشمل معظم أفراد المجتمع. خاصة أن الدراسات أكدت أن التقدم فى الشمول المالى يعزز النمو الإقتصادى والكفاءة المالية وتحسين الحالة المعيشية للأفراد خاصة الفقراء، وإدماج جميع فئات المجتمع وشرائحه المختلفة فى النظام المالى الرسمى خاصة المرأة والفقراء والمشروعات الصغيرة، ومتناهية الصغر وهو ما يحقق العديد من المزايا وإيجاد المزيد من فرص العمل والحد من الفقر.. إلخ. وقد أدركت الحكومة المصرية ضرورة وأهمية العمل على تعزيز الشمول المالى والحد من التعاملات النقودية، لذلك صدر العديد من القوانين والقرارات المهمة. حيث صدر قرار رئيس الجمهورية بإنشاء المجلس القومى للمدفوعات، برئاسته وعضوية عدد من الوزارات والجهات المعنية. وذلك بهدف خفض استخدام أوراق النقد خارج الجهاز المصرفى وتحفيز استخدام الوسائل والقنوات الإلكترونية فى الدفع مما يسهم فى دمج القطاع غير الرسمى وتحقيق أعلى قدر من الشمول المالى. كما صدر القانون رقم 18 لسنة 2019 لتنظيم استخدام وسائل الدفع غير النقدى والهادف إلى وضع إطار تنظيمى ملزم للمدفوعات غير النقدية وتقديم العديد من المزايا المشجعة على ذلك. كما صدر قانون البنك المركزى والجهاز المصرفى رقم 194 لسنة 2020 والذى تضمن بابا كاملا يختص بنظم وخدمات الدفع والتكنولوجيا المالية.وقام البنك المركزى بإلزام البنوك بإنشاء إدارة مستقلة للشمول المالى تتولى عملية التنسيق داخليا بين إدارات البنك من ناحية ومع البنك المركزى من ناحية أخرى فيما يتعلق بالشمول المالي. كما تم تحديد الحد الأدنى من المهام الموكلة إليها ومن ضمنها إعداد استراتيجية متوسطة الأجل لتحقيق الشمول المالى على أن تكون معتمدة من مجلس إدارة البنك أو من يحل محله بالنسبة لفروع البنوك الأجنبية. كما قامت الحكومة بإصدار العديد من القرارات التى أصدرها رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية، وعلى الجانب الآخر قام البنك المركزى المصرى وبعض البنوك التجارية بحملة واسعة لتشجيع التعاملات المصرفية بدلا من التعاملات النقودية السائدة بالمجتمع .
ورغم من كل هذه الجهود فإن المؤشرات تشير إلى أننا مازلنا بعيدين عنه حتى الآن. وهى مسألة غاية فى الأهمية والخطورة، وتعتبر وبحق أحد المعوقات الأساسية أمام انطلاق الإقتصاد المصرى إلى الأمام. وأصبح من الضرورى العمل على تعزيز هذه المسألة وجنى منافع الإبتكار المالى من أجل تعميم الشمول المالى مع الحد من المخاطر التى تهدد الإستقرار المالى وحماية المستهلك. مع تنسيق الجهود بين جميع المؤسسات العاملة فى هذا المجال مثل البنك المركزى والجهات التنظيمية الأخرى.